«صبي الفراشات الملونة» يحلِّق في ربوع الشعر العربي

الفلسطيني طه محمد علي... إعادة اكتشاف شاعر ضاع حقه

نشر في 14-07-2017
آخر تحديث 14-07-2017 | 00:00
No Image Caption
أعاد الشاعر والكاتب الصحافي المصري محمود خير الله «دهشة» كان افتقدها الوسط الأدبي والثقافي في العالم العربي طويلاً بكتاب «صبي الفراشات الملونة»... مختارات من شعر طه محمد علي، الصادر أخيراً عن «الهيئة العامة للكتاب»، سلسلة «الإبداع العربي».
أزال محمود خيرالله الغبار عن أعين نقاد وجمهور الأدب التي لم تر على الساحة الشعرية الفلسطينية غير أسماء محددة صارت أيقونة الشعر الفلسطيني– وهي تستحق – من دون الالتفات إلى شعراء آخرين لا يقلّون قامة عما في قائمة النقاد وعلى الشاشات.

وربما كانت الدهشة بتقديم خير الله شاعراً عاصر هذه الأيقونات والقامات الكبرى كدرويش والقاسم وغيرهما، لكنه لم ينل حظه من الشهرة والذيوع وعاش ومات كذرة ملح في محيط.

تعرَّف خير الله إلى أعمال الشاعر الراحل طه محمد علي عام 2015 عندما كان يحضر مهرجان «سيت» لشعراء البحر المتوسط الذي يجمع سنوياً في تلك المدينة الفرنسية الساحلية الجميلة نخبة من الشعراء العرب والأجانب، وذكر له صديقه الشاعر الفلسطيني بشير شلش اسم طه وأعطاه أعماله الشعرية، وعندما شرع خير الله في قراءتها انفتحت أمامه أبواب الدهشة وبدأت الحكاية.

الحكاية

كتب طه محمد علي (1921 – 2011) الشعر وهو في الأربعين من عمره وصدر أول دواوينه وهو على مشارف الخمسين. أطلقوا عليه عاشق صفورية، وحين مات كانت صدرت له خمسة دواوين، وكان اسمه على اللائحة العالمية لأهم مئة شاعر في القرن العشرين.

تقول الحكاية الفلسطينية، حسبما يذكر خير الله في كتابه: «حينما كان طه في السابعة عشرة من عمره، جرفت قوات الاحتلال الإسرائيلي بلدته الصغيرة «صفورية»، فافترق الشاب المراهق عن حبيبته ابنة عمه التي سرعان ما صارت دليلاً إضافياً على فقدانه الوطن برمته، وتم تهجيرهما معاً إلى لبنان. بعد أعوام لم يحتمل طه الغياب، فعاد منفرداً إلى فلسطين، تاركاً «خصلة» شعرها الصفراء، وبعد عقود طويلة التقيا مصادفة في أحد المطارات، حيث فقدا رحيق كل شيء في الدنيا، وبعدما صار لكل منهما أبناء وأحفاد وضغائن، وسجَّل هذه اللحظة الملهمة في الشعر العربي مرتين، الأولى في قصيدة «القصيدة الرابعة: اليمامة التي رحلت بقطار الشتاء»، والثانية في قصيدة بعنوان «لقاء في مطار أرضه ودود وربه محايد».

قصيدة المعاناة

يقول خير الله: «منذ أول سطر في أشعار طه محمد علي، تدرك أن قصيدة النثر المثيرة للدهشة، التي كتبها استطاعت أن تقف برهافتها وعذوبتها، في مواجهة الآلة الدعائية الجبارة، و{التنميطية»، للقصيدة الفلسطينية المتعددة، وجسدت قصائده، المسار الأكثر تميزاً في مسيرة الشعر الفلسطيني، وألقت بظلالها على خريطة الشعر العربي، الأمر الذي ربما يفسر لنا، لماذا يزداد «عاشق صفورية» تألقاً وسط الشعراء، كلما زادت سنوات غيابه».

يتابع: «خلال السنوات الأخيرة من حياته، ترجمت أشعاره إلى اللغة العبرية، كما ترجمت إلى الإنكليزية، وطبعت مرتين قبل وفاته، وفي عام 2009 صدرت له سيرة ذاتية باللغة الإنكليزية، في كتاب بعنوان «فرحي لا علاقة له بالفرح»، كذلك صدرت ترجمة أخرى لأشعاره إلى اللغة الفرنسية، على يد المترجم أنطوان جوكي».

ويرى خير الله أنه منذ ديوانه الأول، «القصيدة الرابعة وعشر قصائد أخرى}، يعيش الشاعر آلام نصه في العالم الواقعي الملموس، ومن حيث فقد بلدته ووطنه على يد الاحتلال، يلتقط الشاعر نصه من حركة العصافير والأشجار والجداجد في البلدة القديمة، من سطوة النسر على عصفور صغير عاجز، خلفه السرب، يرى فيه الشاعر لاجئاً ضعيفاً مثله، يملؤه حزن السرب الفلسطيني، كله، ولا يستطيع أن يهرب من مصيره.

في ديوانه الثاني «ضحك على ذقون القتلة» 1989، كشف تجربة معقدة، تختلط فيها المرارة بالسخرية، بعدما فقد وطناً من بين يديه، وبات عليه أن يحيا تحت وطأة الاحتلال، إلى أن صار طه، وكأنه أصبح شاعر التهجير والمنافي، أو شاعر «الوداع».

يُلخص طه موقفه ورؤيته للشاعر الجديد، ودوره وقضيته، في قصيدة «حداء... بقوافل غُيوم المساء»، ساخراً من موقف الشاعر التقليدي، الذي يحظى بالشهرة والذيوع والانتشار، وقال له: «أنت من صحارى القصيد، تختصر القبيلة!، أنت من بوادي رثاء الفخر في غزل المطايا، تغني المدح وتنشد الهجاء» طالباً منه أن يرأف به ويرثي لحاله:

سيدي الشاعر

كيف انقادت لك رياح التفاؤل

وأين وقعت على كل هذا الفرح

ليتني حارس

- يا سيدي –

في حدائق بهجتك!»..

الحق الضائع

لا يلوم خير الله أحداً على تجاهل الشاعر الفلسطيني طه محمد علي بقدر ما يلوم الواقع والأحوال الأدبية كلها، ويسخر منها فيقول في تقديمه للكتاب: «طه هو المذنب، لأنه عاش مثقفاً عصامياً ومستقلاً، علم نفسه بنفسه، واطلع على الأدب العربي، قديمه وحديثه، وعلى الآداب الأجنبية، وتمكن منها بقدر لا بأس به، ولأن دواوينه الخمسة مثلت خطاً جاداً في قصيدة النثر العربية، واعتبرت استكمالاً للخيط الشعري المعني بقضية الإنسان، موصولاً بتجربة الشاعر السوري الكبير الراحل، محمد الماغوط (1934 – 2006)، وهذا أخطر ما في طه محمد علي، في حقيقة الأمر».

ويرى خير الله أن نصوص قصيدة النثر الفريدة، المنشغلة برصد لحظات مؤلمة من الواقع اليومي، لشخص فقد تاريخه وحبيبته ووطنه، هكذا في ليلة واحدة، تحت وطأة مؤامرة دولية، اعتبرت خروجاً وانحرافاً عن شكل قصيدة «المقاومة الفلسطينية» التقليدي، التي بدأت فتية بقصائد إبراهيم وفدوى طوقان وعبد الرحيم محمود ومطلق عبد الخالق، إذ ساعدت الدراسات النقدية العربية على تنميطها، ما ساهم في استبعاد النماذج الشعرية الفلسطينية المهمة، التي لم تكن تلبي شروط «النمط» الشعري لأنها – بكل بساطة – اتجهت إلى كتابة مغايرة، لتكون نفسها فقط «قصيدة نثر».

رفض ترك فلسطين

طه لم يذنب حينما رفض أن يترك أرض بلاده فلسطين، وظلّ إلى أن مات، قريبا جداً من «صفورية»، ملتصقاً كالطفل بأرض أحلامه التي طاردته كثيراً في المنامات، والتي قيل إنه كان يتسلل إليها كل فترة، من مقر إقامته، حيث امتلك دكان «أنتيكات» في «الناصرة»، التي لا يفصلها عن «صفورية» سوى 6 كيلومترات، ليتأمل ما فعلته يد الاحتلال من تغييرات في جلد بلدته القديمة، كمن يراقب بفجيعة يومية، كيف يسرق اللصوص بيته قطعة قطعة كل يوم، «فهو يحيا قضية خاسرة، حالته ميؤوس منها، وحقه ذرة ملح، سقطت في المحيط». ومثل كل الشعراء الكبار، الذين يعرفون كيف يكتبون موتهم بأيديهم... مات طه محمد علي.

back to top