الطوائف العراقية تحتفل معاً بتحرير الموصل
تقارب اجتماعي يشجع الساسة على تخفيف انقساماتهم
لم يكن أحد يتخيل سابقاً أن بإمكان رئيس وزراء (شيعي في العادة) أن يترجل من سيارته وسط أكبر المدن السنية في العراق وينخرط بين الجماهير دونما حماية كافية، كما فعل حيدر العبادي الاثنين الماضي وهو يحتفل مع أهل الموصل بتحريرها من تنظيم داعش، وعلى الأقل فلا أحد يستطيع أن يتخيل أن سلفه نوري المالكي قادر على فعل هذا حتى في حي الاعظمية السني التقليدي في قلب بغداد التاريخية.وأفرزت معارك الموصل مزاجا اجتماعيا خاصا يترك اثره على مواقف الساسة من كل الاطراف، رغم وجود أجواء ضاغطة تعرقل كثيرا من خطوات الحوار.ولم تتوقف منذ ايام، الاحتفالات العفوية الطابع بتحرير مدينة الموصل العراقية، وراحت المحافظات فيما يشبه السباق تتفنن في التعبير عن الفرح باستعادة ثاني اكبر مدينة في البلاد من هيمنة تنظيم داعش، وهو مشهد لم يجربه العراقيون منذ فترات طويلة، إذ انها اول مرة منذ سقوط نظام صدام قبل ١٤ عاما، التي يسجل فيها اشتراك مدن سنية مع أخرى شيعية في الفرح بحدث واحد.
فاستعادة الموصل كما يبدو قدمت لمدينة النجف وهي عربية شيعية خالصة، ومدينة الرمادي وهي عربية سنية خالصة، مادة مشتركة للاحتفال والزهو، بينما كان الحدث السياسي الوطني مبعث انقسام بين مدينتين وطائفتين، وكان انقساما دمويا في احيان كثيرة طوال عقود، ولم يقتصر الامر على الرمادي وهي العاصمة التقليدية للسياسة السنية، والنجف كعاصمة دينية للشيعة، بل تعداها الى عموم المحافظات والبلدات من البصرة جنوبا حتى دهوك شمالا، وأثناء ذلك تجاوزت الطبقة السياسية خلافاتها في احيان كثيرة، اذ قدم رئيس اقليم كردستان التهاني الى رئيس الحكومة المركزية حيدر العبادي دون ان تؤثر على ذلك لحظة خلاف واتهامات متبادلة بشأن اعتزام اربيل تنظيم استفتاء شعبي يمهد لاعلان الدولة الكردية.وأصدرت القيادات السنية المعروفة بانتقادها سياسات بغداد، بيانات تشيد بالقوات المسلحة وتضحياتها في الحرب على داعش، وهو امر لم يكن مألوفا منذ سنوات، بل تعدت الخطابات ذلك الى مستوى اعلى جعل محافظ نينوى السابق اثيل النجيفي يشيد بتضحيات «الحشد الشعبي»، وهي في معظمها فصائل مسلحة تنال من النجيفي نفسه ليل نهار، في لحظة بدا ان الجميع يتأثر بعدد الضحايا المقاتلين من كل الاطراف، فضلا عن الخسائر المدنية التي فاقت التقديرات.ورغم ذلك لم يخف الموصليون «عتبهم» على العبادي، إذ لم ينجح في جعل نخب الموصل جزءا من مشهد الانتصار، حسب تعبير العديد من قادتهم الذين استدركوا بالاعتراف بأن رئيس الحكومة اضطر الى ذلك كي يتمكن من صناعة توازن وهو «يقصي» الميليشيات الموالية لايران، عن مشهد الانتصار ذاته ويتجاهل حضورهم بشكل يشبه التحدي، في اطار خلاف يتصاعد داخل البيت الشيعي بين حمائمه وصقوره.ومنذ بضعة أشهر بدأ خطاب القوى السنية يعتمد منهجا بعيدا عن التصعيد حتى اثناء تداول الخلافات على مستقبل ادارة المناطق السنية المحررة من داعش، وتتقدم بمبادرات تهدئة يمكن ان تمنح جمهورها أملا بتخفيف المعاناة الرهيبة التي تعرضت لها المدن والناس، ولأول مرة بدت هذه القوى تدرك المهمة الصعبة للاجنحة المعتدلة في السياسة العراقية وهي تواجه ضغوطا من المتشددين المقربين على طهران، ولذلك فإن الاحزاب السنية لم تستدرج لانفعال يذكر حين «عرقلت» بغداد عمليا انعقاد مؤتمر حوار سني مهم السبت المقبل، بإعلانها تنظيم استعراض عسكري احتفالي في العاصمة يتزامن معه، فقد اعتبر السنة ذلك جزءا من «ضرورات التضامن مع القوات المسلحة وأفراح الشعب»، أملا بامكانية ظهور اجواء تشجع على توافق سياسي يسنده تقارب اجتماعي يخفف الاحتقان والانقسام، وهو ما بات مطلبا دوليا بعد تحرير الموصل، حيث حثت واشنطن ولندن الفرقاء العراقيين على تجنب الظروف والخلافات التي سهلت ظهور «دولة داعش» المنهارة، والحذر من تبديد التضحيات والانتصارات.ورغم ذلك فإن متطرفين من الجانبين لايزالون يثيرون قضايا قديمة ويزورون بيانات، بهدف تأجيج الثأر والانتقام بين الطوائف العراقية، بلا كلل أو ملل، وهو مسار يرتبط بوضوح باقتراب التنافس الانتخابي استعدادا للاقتراع العام المقرر في ربيع العام المقبل.