خلال أربع سنوات، لم يسمع محمد الحسن شيئاً عن ابنه الجندي في الجيش السوري إلا مرة واحدة، حين وجه عبر الراديو تحية إلى العائلة التي كانت محاصرة في مدينة الرقة، معقل تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا.

لا تتوقف معاناة هذا الرجل الستيني عند هذا الحد، إذ انقطع تواصله مع ابنه الثاني وهو أيضاً جندي في الجيش السوري منذ العام 2013، ولم يتمكن من رؤية ابنتيه المتزوجتين وفاء ونورا المقيمتين في مدينة الحسكة (شمال شرق) منذ العام 2014.

Ad

وقبل ثلاثة أشهر، تمكن محمد مع زوجته نظيرة وبقية أفراد أسرتهما من الفرار من مدينة الرقة إلى مخيم للنازحين في مدينة عين عيسى الواقعة على بعد أكثر من خمسين كيلومتراً عن الرقة.

ومنذ وصولهما إلى المخيم، لا يحلم الوالدان إلا برؤية أولادهما الأربعة سالمين.

فرار

أمام خيمة باتت منزلهما، تقول نظيرة، في الخمسينات من العمر، لوكالة فرانس برس «لا نعرف اذا كانوا أحياء أم أموات» قبل أن يضيف زوجها أن الأولاد لا يعرفون أيضاً «إن كان أهلهم قد ماتوا».

وانقطعت أخبار الشابين منذ العام 2013، عندما سيطرت فصائل معارضة على مدينة الرقة، وكانت بذلك أول مركز محافظة في سوريا يخرج عن سلطة النظام.

وبعد أقل من عام، تمكن تنظيم الدولة الإسلامية من السيطرة على المدينة، وبات يتحكم بكافة مفاصل الحياة فيها، ومنذ ذلك الحين، لم يتمكن الوالدان أيضاً من رؤية نورا ووفاء اللتين تزوجتا قبل بدء النزاع في العام 2011 وانتقلتا للسكن في مدينة الحسكة الواقعة بمعظمها تحت سيطرة الأكراد.

ومع وصول المعارك إلى أطراف مدينة الرقة، فرّ محمد مع زوجته وخمسة من أولاده وعدد من الأحفاد على متن دراجات نارية من حي المشلب، أول الأحياء التي سيطرت عليها قوات سوريا الديموقراطية في مدينة الرقة، وتركت العائلة خلفها كل شيء.

وإذا كان محمد قد بقي خلال السنوات الماضية على اتصال بابنتيه قبل أن ينقطع التواصل قبل ثمانية أشهر، فإن الأمر مختلف كلياً في ما يتعلق بولديه.

مراقبة

ويقول «لم أسمع صوتهما منذ خمس سنوات»، مضيفاً «كان داعش يراقبنا ويقول لنا إذا حاولتم الاتصال بهم فأنتم تتصلون بالنصيرية»، وهي تسمية يطلقها التنظيم على أبناء الطائفة العلوية التي يتحدر منها الرئيس السوري بشار الأسد وعلى الموالين له.

ويقاطعه أحد أصدقائه أبو سمير (اسم مستعار) ليوضح «المرة الوحيدة التي سمعنا فيها خبراً عن ابنه سامي كانت حين وجه تحية لوالده عبر الراديو».

يهز محمد رأسه ايجاباً قبل أن يضيف «خنقنا الدواعش».

ويوضح في ما يتعلق بابنتيه «كنا نتواصل عبر الانترنت، لكن آخر مرة تحدثت إليهما كانت قبل ثمانية أشهر، لا أعرف عنهما شيئاً اليوم وهما لا تعرفان اننا في المخيم».

ويقتصر توفر الانترنت في الرقة على مقاه معدودة بعدما قطع تنظيم الدولة الإسلامية الخدمة عن المنازل والمحال منذ فترة طويلة، وازداد الوضع سوءاً منذ اطلاق قوات سوريا الديموقراطية حملة «غضب الفرات» لطرد تنظيم الدولة الإسلامية من الرقة في نوفمبر الماضي.

وتمكنت تلك القوات وإثر معارك عنيفة من دخول المدينة في السادس من يونيو، وباتت تسيطر على أحياء عدة وتتقدم في أخرى أبرزها المدينة القديمة.

وتقول نظيرة وهي ترتدي عباءة سوداء وتغطي رأسها بحجاب أبيض «حرمنا الدواعش» منهم «في إشارة إلى أولادها».

إذن

ومنذ وصولهما إلى مخيم عين عيسى الذي يؤوي حالياً وفق المشرفين عليه سبعة آلاف نازح، يحاول الزوجان الحصول على إذن خروج للتوجه إلى الحسكة التي تقع على بعد 180 كيلومتراً.

تحت أشعة شمس حارقة وحرارة تلامس الخمسين أحياناً، تسلك نظيرة يومياً طريقاً ترابية من خيمتها الصغيرة حتى مقر إدارة المخيم، أملاً في الحصول على إذن بالخروج.

ورغم أنها تتلقى وعوداً ايجابية لكن المشرفين على المخيم يكررون الإشارة إلى أن لائحة الراغبين بالخروج طويلة.

وتتطلب مغادرة الزوجين المخيم حصولهما على إذن رسمي وطلب تسهيل مرور نحو الوجهة المحددة، موقعاً من قوات الأمن الكردية «الأسايش» التي تنتشر حواجزها على طول الطريق.

ودعا مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في تقرير مطلع هذا الأسبوع الجهات المسؤولة عن المخيمات إلى زيادة هامش حرية تنقل النازحين من الرقة الذين غالباً ما يطلب منهم الحصول على كفيل محلي للتنقل خارج المخيم.

مسؤولية

لا تقتصر معاناة رائدة «27 عاماً»، ابنة محمد ونذيرة، على فقدان التواصل مع شقيقيها وشقيقتيها فحسب، بل أيضاً مع زوجها الجندي الذي لا تعرف شيئاً عنه منذ خمس سنوات، وكانت المرة الأخيرة التي رأته فيها قبل شهر من ولادة طفلهما الصغير عصام «خمس سنوات».

وتقول رائدة التي تغطي رأسها بحجاب يظهر منه شعرها الأشقر «لم أسمع شيئاً عنه منذ إن دخل الجيش الحر إلى المدينة وبعده داعش».

ووجدت هذه الشابة نفسها قبل خمسة أعوام مسؤولة عن تربية عصام وشقيقه فيصل «10 سنوات» وشقيقته فرح «سبع سنوات».

وتوضح أنها لم تكن تتخيل يوماً أن بكرها فيصل، ذو الشعر البني الفاتح، سيغدو «المحرم» الذي يرافقها في كل تحركاتها خارج المنزل، بعدما منع تنظيم الدولة الإسلامية خروج النساء إلا برفقة ذكر من أقاربهن.

وفي محاولة لتقصي أي أخبار عن زوجها، دأبت رائدة على سؤال المنشقين عن الجيش عنه، وتقول «قبل نحو سنة، تعرف أحدهم على صورته وقال لي أنه قد يكون تزوج».