في مذكرات جي دي فانس التي صدرت بعنوان "هيلبيلي ايلغي" والتي تسرد الآمال التي تبخرت في أوساط اولئك الذين استبعدوا من الاقتصاد العصري يتحدث الجد "بابو" عن تنبؤات محددة تقول إن "جيلكم سوف يكسب قوته ومصادر معيشته عن طريق عقوله لا من خلال يديه"، ولكن الشيء الذي لم يتوقعه بابو هو أن هذا التحول سوف يكون أكثر سهولة الى حد كبير بالنسبة الى النساء لا الى الرجال.

ويمكن القول ان الاقتصاد في الولايات المتحدة كان ومنذ زمن بعيد يبتعد بصورة واضحة عن صناعات العمل اليدوي ومنها على سبيل المثال التعدين والتصنيع مع التوجه نحو ما يمكن وصفه بقطاعات "العقول" كما هو الحال بالنسبة الى ميادين المال والصحة والتعليم وغير ذلك من قطاعات الفكر.

Ad

وتجدر الاشارة بشأن الفترة الممتدة ما بين سنة 1970 وحتى العام الماضي، تراجعت حصة العمال في الفترة السابقة على 1970 من 38 في المئة الى 16 في المئة، بينما ازدادت الحصة في الفترة اللاحقة (2016) من 26 في المئة لتصل الى 44 في المئة.

التحول الحاد

شريحة الرجال الأقل تعلماً وثقافة والذين يشغلون أكثر من ثلاثة أرباع الوظائف التي يطلق عليها وصف "اليدوية" قد شعروا بما يدعى التحول الحاد بعيداً عن العمل المادي وبشكل أكثر حدة وقسوة، وعلى العكس من ذلك، ومن جهة اخرى، شملت المرأة حوالي نصف وظائف "العقول" في الفترة التي تعود الى سنة 1970، كما أن حصة الجنس اللطيف نمت في العقود التالية مع ازدياد انضمام النساء الى قوة العمل.

وفي غضون ذلك يشير ثبات التحول أو الانتقال من العمل اليدوي الى الذهني الى أن عامل التقنية كان القوة المحركة الرئيسية في هذا المسار، وقد هيمنت وظائف "العقول" في عام 1982 وقبل وقت طويل من انضمام الصين الى منظمة التجارة الدولية في سنة 2001، كما استمر ذلك بوتيرة ثابتة خلال فترة العولمة العالية التي شهدتها فترة أواخر التسعينيات من القرن الماضي وحتى مطلع الـ 2000.

وعلى الرغم من أن الازدياد في التجارة مع الصين قد يكون أسهم في التراجع في الطلب على عمال الانتاج، فإن ذلك لم يكن وبشكل واضح القوة الرئيسية وراء هذا الاتجاه.

دور التقنية الجديدة

من جهة اخرى تشير المعلومات المفصلة الى أن التقنية الجديدة التي تميل الى توفير التأثير الأكبر على طيف التعليم كانت أفضل بالنسبة الى استبدال عمل الرجال بصورة عامة، كما أن التوظيف في المهن التي يهيمن عليها الذكور والتي تتطلب الحصول على شهادة الدراسة الثانوية أو ما هو أقل من ذلك، مثل عمال المعادن ومشغلي المطابع والنجارين، قد انخفضت بما يصل الى أكثر من الربع منذ سنة 2005، وعلى العكس من ذلك، شهد التوظيف في بعض مهن النساء مع المتطلبات ذاتها مثل المخابز وعاملات التجميل والرعاية الشخصية، نمواً بأكثر من الربع.

وكانت ميزة المرأة جلية في الأجر أيضاً، وعلى الرغم من أن مهن النساء أقل أجراً بشكل وسطي ضمن كل مستويات التعليم فإن المرأة بدأت باللحاق بالرجل في مجال الأجور، ومنذ سنة 2005 ارتفعت أجور مهن النساء بحوالي 15 في المئة أكثر من وظائف الرجال وهذا يعني، على سبيل المثال، أن دخل الممرضة نما بسرعة أكبر من أجر النجار. ويحقق الرجل تقدما في مناطق النمو السريع فقط – كما هو الحال في الهندسة والحواسيب والمال – وهي تتطلب درجة جامعية، وعند هذا المستوى من التعليم كان أجر وظائف الرجل في الأساس أكثر من 50 في المئة من وظائف النساء، وينمو هذا الأجر بصورة أسرع أيضاً.

اتجاهات التوظيف

وتظهر اتجاهات التوظيف هذه الأهمية التي يتمتع بها التعليم بالنسبة الى مساعدة الرجال الذين تم اهمالهم نتيجة التحول نحو وظائف "العقول"، وعلى الرغم من ذلك فإن الاقتراح الذي تقدم به الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الميزانية يدعو الى خفض بنسبة تصل الى 13.5 في المئة في وزارة التربية مع العلم أنه فاز في الانتخابات الرئاسية في العام الماضي على أساس وعده بتوفير فرص عمل الى تلك الشريحة من المواطنين. وهذا بكل تأكيد اتجاه خاطئ في اقتصاد يدار من قبل "عقول"، كما أن أي جهود تهدف الى اعادة وظائف العمل "اليدوي" عبر سياسة مبادلة أو محاولات يائسة لمنع مصانع الانتاج من الانتقال الى خارج الولايات المتحدة سوف يكون مصيرها الفشل بكل تأكيد.

وتجدر الاشارة الى أن توظيف شريحة الرجال غير المتعلمين محاولة عقيمة، ومن بين حوالي 3.5 ملايين من سائقي الشاحنات في الولايات المتحدة الذين يواجهون خطر أتمتة وظائفهم تصل نسبة الرجال فيهم الى 95 في المئة، وهذا يعني أن على الرجال في تلك الحالة الدخول في منافسة حامية مع النساء في ميدان المهن التي تتطلب درجة أعلى من التفاعل الشخصي، وهو ميدان لم يتمكن الرجل من تحقيق قدر كبير من التقدم والنجاح فيه، وعلى صعيد تاريخي ظلت الوظائف التي يغلب عليها أحد الجنسين على هذه الصورة ومن دون تغيير.

الحاجة إلى ميزانية تعليم

ويتبين لنا نتيجة لذلك كله أنه يتعين على الكونغرس الأميركي والرئيس ترامب وضع ميزانية تعليم تعترف بحجم ومضاعفات التحول الهيكلي بعيداً عن الأعمال اليدوية والانتقال الى أعمال العقل، وهو اتجاه لا يقل أهمية عن الثورة الصناعية التي شهدناها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على التوالي. وهذا بدوره يعني وضع ميزانية تعمل على الاستثمار في تعليم أفضل، وأكثر شمولاً في ميادين التعليم في العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات.

وقد اعترف "أقطاب التقنية" الذين اجتمعوا في الشهر الماضي في البيت الأبيض بهذا العجز في المهارات، كما دعوا الى وضع رموز في كل مدرسة عامة. وقد تطورت أعمال البضائع والخدمات وأصبح على التعليم والتدريب أن يواكب هذا التطور، وهذه هي الطريقة الوحيدة من أجل اعطاء الرجال فرصة ومساعدة النساء على سد الفجوة المتبقية في الأجور، وضمان وظائف جيدة لشريحة واسعة من المواطنين.