تحت عنوان "حق الدفاع المفترى عليه في نظامنا القانوني" في مقالي الأحد الماضي، تطرقت إلى تخلف هذا النظام عن عالم حقوق الإنسان حين يتشدد في اقتضاء الحق المدني ويتساهل في المحاكمات الجزائية وفي توقيع العقاب، بما يوصمه بالتناقض.ولكن الأمر لا يقتصر على هذا التناقض، بل يخالف شرع الله في قول الرسول، صلى الله عليه وسلم، "لأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"، ويقول الإمام العلامة أبومسلم الخولاني: "إن عدلت مع أهل الأرض جميعاً، وجُرتَ في حق رجل واحد، فقد مال جورك بعد ذلك".
فهناك وسائل قانونية غير سليمة اتبعتها السلطة التشريعية في الأحكام التي سنّتها بموجب قانون الإجراءات الجنائية، سواء بتلقي الشرطة البلاغات من الأفراد وإحالتها دون تحقيق جدي إلى المحاكمة، وصدور أحكام غيابية بالإدانة فيها، وحرمان المتهم من الحق في محاكمة قانونية عادلة، تكفل للمتهم فيها ضمانات الدفاع عن نفسه.وقد وقع النظام القانوني والقضائي في مصر والكويت في حومة مخالفة المبادئ الدستورية في شرعية التجريم والعقاب، والتي قننتها النصوص الدستورية التالية في الدستورين الكويتي والمصري:
أولاً: افتراض البراءة في الإنسان:
وهو المبدأ الدستوري الذي تقننه المادتان 34 من دستور الكويت و96 من دستور مصر.وافتراض البراءة في الإنسان، قرينة تؤسس على الفطرة التي جُبِل عليها، أي أن تُنقَض بقضاء باتٍّ، وهي أصل ثابت يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها وينسحب أثرها إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها وعلى امتداد إجراءاتها.وقد رتب الدستور على افتراض البراءة عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة، وتكون جماع عقيدتها، ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هي وحدها كلمتها فيها، وأن يكون مرد الأمر دائماً إلى ما استخلصته هي من وقائع الدعوى، وحصلته في أوراقها (المحكمة الدستورية ق 31 لسنة 16ق دستور). ولا تكتمل هذه الضمانة إلا في ظل مبدأ شرعية الإجراءات الجزائية، وما يفرضه هذا المبدأ على النيابة العامة أو المحقق قبل مثول المتهم أمام المحكمة من دور مهم وأساسي في البحث والتحري والتنقيب عن الأدلة، ومواجهة المتهم بها في تحقيق تكفل فيه للمتهم كل الضمانات.ثانياً: حماية المتهم وحظر إيذائه:
وهو ما كفله للمتهم الدستور الكويتي في المادتين 31 و34، وتحظر أولاهما أن يعرض أي إنسان للتعذيب أو المعاملة الحاطة بالكرامة، وتحظر الثانية إيذاء المتهم جسمانياً أو معنوياً.وتوفر هذه الحماية للمتهم فيما تنص عليه المادة (51) من الدستور المصري من أن "الكرامة حق لكل إنسان، ولا يجوز المساس بها، وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها...". كما تنص المادة (52) على أن التعذيب بجميع صوره وأشكاله، جريمة لا تسقط بالتقادم، بل وتلزم المادة (96) من الدستور المصري الدولة بأن توفر الحماية للمجني عليهم والشهود والمتهمين والمبلغين عند الاقتضاء.والحماية المقررة للمتهم بموجب هذا النص ترقى إلى اعتبارها حقاً دستورياً للمتهم، ولكنها لا ترقي إلى ذلك بالنسبة إلى المبلغ، فليس له ما للمتهم من حق دستوري من قبل الدولة في حمايته، ولكن الدستور ترك للدولة حمايته عند الاقتضاء عندما تستلزم المصلحة العامة ذلك، بأن تكون جريمة من جرائم حماية المال العام، أو جريمة من جرائم الرأي العام، التي يكون فيها للمتهم نفوذ أو سطوة أو سلطان، فتتدخل الدولة لحمايته بموجب سلطتها التقديرية. غير أن الوسائل القانونية غير السليمة التي اتبعتها السلطة التشريعية في الأحكام التي سنتها بموجب قانون الإجراءات الجنائية، تُغلّب وترجّح حماية المبلِّغ على حماية المتهم، فتكون للأول اليد الطولى في المحاكمة، فهو لا يكلف بحضور المحاكمة، لتناقشه المحكمة فيما قدمه من بلاغ، ولا يعاد تكليفه بالحضور، إذا غاب اكتفاء بالبلاغ الذي قدمه.وخلاصة ما نراه في نظامنا القانوني الإجرائي في المحاكمات الجزائية أنه بمنزلة:أولاً: عدوان على الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن، والتي نصت المادة 92 من الدستور المصري على أنها لا تقبل تعطيلاً ولا انتقاصاً، ولا يجوز لأي قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها.وهي كذلك في الدستور الكويتي الذي حظرت مادته (175) اقتراح تنقيحها، إلا لمزيد من ضمانات الحرية والمساواة، وهو ما يعني من باب أولى عدم المساس بها بنص تشريعي.ثانياً: عدوان على حق التقاضي المصون والمكفول للجميع بموجب المادة (97) من الدستور المصري و166 من الكويتي.ثالثاً: عدوان على حق الدفاع المكفول أصالة لكل مواطن بموجب المادة 98 من الدستور المصري.رابعاً: عدون على حق الدفاع بالوكالة الذي كفلته كذلك المادة 98 من الدستور المصري، ففي الوقت الذي يتيح فيه نظامنا القانوني في مصر وفي الكويت للخصوم في الدعوى المدنية حق الدفاع بوكلاء عنهم من المحامين، فإن النظام المصري يوجب حضور المتهم شخصياً في قضايا السرقة، وينفذ الحكم في هذه الجرائم فوراً، دون انتظار لما يسفر عنه طعنه بالاستئناف.ويشدد النظام القانوني في الكويت على حضور المتهم شخصياً في جميع الجرائم، ولا يقبل دفاع المتهم بالوكالة.وهو ما يقطع بالهوة السحيقة بين نظامينا الدستوري والقانوني في كلا البلدين، الأمر الذي يوجب إعادة النظر في هذا النظام القانوني لتخليصه من الاستمرار في مخالفة أحكام الدستور.