لا يمكن لأي دولة تعيش في منطقتنا اليوم أن تبني استراتيجية دفاعية من دون تخصيص محور جوهري ضمنها لأنشطة "السوشيال ميديا"، كما لا يمكن لأي قوات نظامية أن تربح معركة من دون استراتيجية اتصال تتضمن استخداماً حاذقاً لتجليات التواصل الاجتماعي.صحيح أن فيلسوف الحرب الشهير "كلاوزفيتز" كان قد قال، قبل قرنين، إن "الحرب حرباء"، وإنها "تلون نفسها"، و"تكتسب طاقات فعل جديدة في كل مرحلة من المراحل"، لكن التطورات التي نتجت عن التضافر والتزاوج بين أدوات "السوشيال ميديا" ووسائل القتال التقليدية تظل مذهلة وعصية على أي توقع أو تحليل استشرافي.
لذلك، فقد سعى مركز البحوث التابع لحلف شمال الأطلسي (ناتو) Stratcom Center of Excellence إلى معالجة هذا التطور الخطير في مسار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في سياق الحروب، حين بلور أطروحة مهمة تحت عنوان "تسليح وسائل التواصل الاجتماعي" Weaponization of Social Media.يشير هذا التأصيل الجديد إلى الدور الواسع الذي يمكن أن تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي، ضمن منظومة ما بات يعرف بـ "الإعلام الجديد" في عالم الحرب والصراعات العنيفة. وهو دور تستمده تلك الوسائل من سماتها الفريدة، التي يمكن تلخيصها في الإتاحة، والسرعة، والفورية، والقدرة على التخفي، وعدم وجود قيود على حجم وسعة المواد التي يتم بثها، وعدم تقيدها بحدود الزمان والمكان، وعدم خضوعها لقواعد أو آليات ضبط ومتابعة محكمة.ومع تطور أشكال الحرب، وظهور ما يُعرف بحروب "الجيل الرابع"، والحرب اللامتماثلة asymmetric Warfare، والحرب الهجينة Hybrid Warfare، زاد الدور الذي يمكن أن تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في عالم المعارك.إن تلك الحروب التي تتخذ أشكالاً حديثة تتسم بأن جبهتها غير محددة، وأن نطاق استهدافها واسع وغير محدود، وأنها تعول تعويلاً كبيراً على دور الرأي العام في حسم أعمال القتال. لذلك، فقد برزت أدوار جديدة لوسائل التواصل الاجتماعي في هذا النوع من الحروب؛ ومن تلك الأدوار: جمع المعلومات الاستخبارية، وعمليات التجنيد، والاستقطاب، والأنشطة اللوجستية، والاتصال الشخصي، والعمليات السيبرانية، والتحكم والسيطرة، والدفاع، وصولاً إلى إعطاء التكليفات، وتسهيل شن الهجمات، فضلاً عن تقويض الروح المعنوية للحكومات، وللجمهور، وللقوات النظامية المقاتلة.تفرض التطورات التي طرأت على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي ودورها في عمليات الاستهداف وشن الأعمال العدائية تحديات كبيرة على الدول العربية.وفي المقابل، فإن تلك التطورات تمنح الحكومات فرصاً عبر الاستخدام الجيد لتلك المنصات النافذة والمؤثرة.يجب استخلاص العبر من المواجهات التي تجري بين جيوش عربية نظامية ومجموعات إرهابية، كما هو الحال في العراق، ومصر، واليمن، ودول عربية أخرى، للتعرف إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه تلك الوسائط، والذي يتضمن ما يلي:- تحول وسائط الإعلام الجديد إلى آلية للحشد والتعبئة وبنية اتصالية أساسية لتنظيم بعض الاحتجاجات وأعمال العنف والشغب والاضطرابات الأمنية.- زيادة كبيرة في اعتماد الجماعات الإرهابية على وسائط الإعلام الجديد في عمليات التجنيد والاستقطاب.- تحول بعض وسائط التواصل الاجتماعي إلى آلية لتعليم تصنيع المتفجرات والعبوات الناسفة وكيفية القيام بالعمليات الإرهابية.- يتم استخدام بعض وسائط التواصل الاجتماعي في تقويض الروح المعنوية للجمهور والجيوش النظامية.- يتم بث الكثير من الشائعات والأخبار المضللة والمحرفة عبر وسائط التواصل الاجتماعي التي لا تخضع لأي ضبط أو رقابة بما يحولها إلى أدوات لتنفيذ أهداف قوى مشبوهة أو وسائل لتقويض الأمن القومي.- إشاعة الأخبار المضللة.- سرقة الحسابات وانتحال الأدوار.- بناء الصورة الذهنية اللامعة للذات وللمؤيدين والأنصار والمتعاطفين.واستناداً إلى ما سبق، ينبغي على الدول العربية التي تواجه مخاطر الإرهاب أن تأخذ في اعتبارها الأنشطة الاتصالية للقوى المعادية، لكي تنجح في تطوير أدائها الاتصالي، عبر اتخاذ الخطوات التالية:- البث المباشر والفوري للأنباء والقصص الدقيقة والموثقة والداعمة للقوات المسلحة.- تزويد الرسائل بعناصر الملتميديا المتكاملة لتحقيق المصداقية والجاذبية للمادة المذاعة.- كشف الأخطاء والمعلومات المضللة والتأويلات الخاطئة التي ترد في أنشطة القوى المعادية على مواقع التواصل الاجتماعي.- تأمين الحسابات والمنصات والمواقع التابعة للدولة والمتحدثة باسمها، عبر تحصينها ضد الاختراق والانتحال والسرقة والإغلاق.- استخدام صلاحيات السيادة الوطنية للدولة في ملاحقة المواقع الضارة وغلقها وتوضيح عدم شرعيتها للجمهور.- بناء استراتيجية تسويق إلكتروني فعالة ومتماسكة للترويج للمواقع التابعة وزيادة أعداد متابعيها.- تطوير علاقات دائمة وفعالة مع مزودي الخدمات وإدارات المواقع الفاعلة والمؤثرة، واستخدام تلك العلاقات في تحجيم نشاط هذه المواقع، عبر إثبات خرقها لقواعد الاستخدام، ومطالبة القائمين على الخدمات بإيقاف الضار منها.- الاعتماد على "العدو"، عبر بث المواد الإعلامية التي تحطم معنوياته، بشكل فوري وجذاب، بحيث يمكن أن يطلع عليها، ويتداولها، أو يتأثر بها.- التزويد الفائق: بمعنى بث مواد ورسائل أكثر عدداً وبوتيرة أسرع من جميع القوى المعادية، وهو أمر يستلزم تعزيز الوحدات الحكومية المعنية ورفدها بطاقات وأعداد كبيرة من العاملين في مجال التواصل الاجتماعي.- تطرح وسائط التواصل الاجتماعي تحدياً كبيراً على الدولة العربية في أوقات الاستهداف الإرهابي، لكنها أيضاً يمكن أن تكون فرصة إذا أُحسن التعامل معها.ولكي تنجح القوات المسلحة، والشرطة، والحكومة، وبقية أطر الدولة العربية، في مواجهة هذه المخاطر والاستفادة من الفرص، عليها أن تعتمد استراتيجية تبدأ بتأليف وحدة ضخمة معنية بإدارة وسائل التواصل الاجتماعي وأنشطة الإعلام الجديد، لكي تعمل على توفير آليات الرصد، والمتابعة، واستخدام صلاحيات السيادة في إغلاق وتحجيم المنصات التي تحرض على الإرهاب وتثير الكراهية، وتطوير آليات إنتاج محتوى، تستفيد من كافة تجليات الملتميديا، واعتماد إجراءات "تزويد" أكثر كثافة من تلك التي تبثها جميع الوسائط المعادية.وعبر عمليات التدريب المكثفة، ستكون الكوادر البشرية العاملة في "الإعلام الاجتماعي الحكومي العربي" قادرة على إدارة النشاط الاتصالي عبر مواقع "السوشيال ميديا"، بطريقة فعالة.* كاتب مصري
مقالات
من المَدافع إلى التغريدات... استراتيجيات جديدة للدفاع
16-07-2017