مستقبل البيت الخليجي
جاء الوزير الأميركي، وجاب المنطقة، ولم يفلح في زحزحة المواقف، لكن مهما استحكمت الأزمات، واشتدت الظلمات، يبقَ الأمل المرتجى معقوداً على جهود أمير الحكمة والإنسانية، صاحب السمو أمير دولة الكويت، في صيانة البيت الخليجي من التصدع، وفي تعزيز آمال وتطلعات الخليجيين في مجلس التعاون.
مستقبل مجلس التعاون الخليجي أصبح على المحك في ضوء الأزمة الراهنة بين قطر وشقيقاتها الثلاث، الأزمة أصبحت لها تداعيات سلبية خطيرة على الشعب الخليجي، لأنها لم تقتصر على خلافات سياسية بين الدول، بل تجاوزتها إلى المواطنين، كانت الخلافات السياسية في الماضي تدور بين الحكومات عبر الحملات التحريضية الإعلامية، ولكنها اليوم تحولت إلى زاد يومي يغذي الرأي العام الخليجي عبر منصات التواصل الاجتماعي والفضائيات، عسكر الجميع خطابه الإعلامي والديني كما جند الفن والثقافة في خدمة خطاب الأزمة، وأصبح الشعار العام الحاكم للفضاء الإعلامي «لا صوت يعلو صوت الأزمة»، وكان من نتائج حملات الكراهية والتحريض المتبادلة، على المستوى الشعبي، هذا الشرخ النفسي العميق الذي أصاب الجسم الخليجي، ولا أتصور أنه سيُجبَر في المنظور القريب، حتى بعد وصول الفرقاء إلى حلول توافقية، بل سيستمر هذا الشرخ على امتداد هذا الجيل، ومجلس التعاون، بعد الأزمة، لن يكون كما كان، سواء على مستوى التعاون الذي يمثل الحد الأدنى، أو على المستوى الأعلى، حلم الاتحاد الذي صار بعيداً. لم يكن من العدل أن تشمل هذه العقوبات القاسية المواطنين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، في قطر وفي الدول الشقيقة، كان وقعها على القطريين مريراً، أحسوا أن هذه العقوبات، تستهدفهم أساساً، في تقييد حريات التنقل، كما تستهدف مصالحهم، وكانوا محقين في هذا الإحساس، وكان الجميع يتساءل: خلاف بين الحكومات، لماذا يضار المواطنون في حرياتهم ومصالحهم؟! طلاب قطريون في جامعات، حرموا مواصلة الدراسة وأمروا بالعودة إلى بلادهم، معتمرون قطريون تعرضوا لمضايقات اضطرتهم للعودة، إضافة إلى خسائر مالية لحقت بمواطنين جراء منعهم من دخول هذه الدول، إلى غيرها من العقوبات التي ألحقت الأذى بالمواطنين الخليجيين، لاسيما القطريين، وخلفت مرارات كبيرة في نفوسهم، لأنها جاءت من أشقاء تربطهم وشائج القربى، ولذلك كان شعورهم بالألم والمرارة والحسرة عميقاً، طبقاً لما عبر عنه الشاعر القديم، طرفة بن العبد:
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةًعلى المرءِ من وقعِ الحسامِ المهندِ إن الألم النفسي الذي خلفته الأزمة لن ينسى بسهولة، وهذا الجرح الذي أصاب النفوس لن يندمل سريعاً، وقديماً قال الشاعر: جِراحات السنانِ لها التئامٌ ولا يلتام ما جرحَ اللسانُ أخيراً: سيذكر التاريخ غداً أن الآباء المؤسسين لمجلس التعاون نجحوا في بناء كيان خليجي تعاوني قوي ومتماسك، صمد على امتداد عقود من الزمن، وتغلب على جميع التحديات الخارجية التي واجهته طويلاً، وكان يضرب به المثل في نجاح التجربة في العالم العربي، نجح القادة المؤسسون في العبور بسفينة التعاون إلى بر الأمان والاستقرار والازدهار، رغم الخلافات الداخلية على مشروعات وقضايا متعددة، إلا أنها لم تؤثر على المسيرة التعاونية عبر 36 عاماً من عمر المجلس.وطبقاً للسفير عبدالله بشارة، أول أمين عام، فإن هذا الكيان حمى الجسم الخليجي وقوّى مناعته السياسية والاجتماعية والفكرية، تجاه 3 آفات مهلكات: غزو الفكر القومي الثوري المغامر، والطرح الأيديولوجي اليساري المخرب، وأوهام وشعارات الإسلام السياسي المضلل، تلك الطروحات التي كانت وما زالت بلاء على مجتمعاتها: بددت ثرواتها، وأهدرت طاقات أبنائها، وتسببت في إذلالهم وتشريدهم، فلولا هذا الكيان الخليجي الدال على براعة الخليجيين في التماسك والترابط، وقت الأزمات، طبقاً لتقرير راند، لكان مصير الخليج، نفس المصير الذي وصلت إليه دول الربيع العربي. مجلس التعاون، هو المثال الإقليمي الباقي في دنيا العرب السياسية، واستطاع تجاوز كل الأزمات، والتغلب على كل التحديات، فهل سيتجاوز أزمته الحالية؟ وهل يتمكن القادة الأبناء، من الحفاظ على هذا الكيان الذي أسسه القادة الآباء، من الانفراط والتفكك، في عالم لا يحترم إلا الكيانات القوية؟ هل يتغلب صوت الحكمة والعقلانية والمصالح العليا المشتركة على صوت المصالح الآنية الضيقة،حتى لا تذهب منجزات 36 عاماً، سدى؟ ختاماً: جاء الوزير الأميركي، وجاب المنطقة، ولم يفلح في زحزحة المواقف، لكن مهما استحكمت الأزمات، واشتدت الظلمات، يبقَ الأمل المرتجى معقوداً على جهود أمير الحكمة والإنسانية، صاحب السمو أمير دولة الكويت، في صيانة البيت الخليجي من التصدع، وفِي تعزيز آمال وتطلعات الخليجيين في مجلس التعاون. * كاتب قطري
مجلس التعاون حمى الجسم الخليجي وقوّى مناعته تجاه آفات غزو الفكر القومي الثوري المغامر والطرح الأيديولوجي اليساري المخرب وأوهام وشعارات الإسلام السياسي المضلل