بعد قراءة ما يقارب ستمئة صفحة، هي مساحة رواية "موت صغير" لمحمد حسن علوان، تضجّ في ذهن المتأمل، ولا شك، جملة من الأسئلة حول استحقاق حصولها على جائزة البوكر لعام 2017! بل تعود ذات الاستفهامات إلى المعايير المعمول بها للتحكيم! فكلما ركن المتأمل إلى ما ظنه معيارا للاختيار يُفاجأ بضده ونقيضه! فقد كنتُ أظن – ولعل غيري كان يظن أيضا – أن معيار الانتقاء هو الموضوع، وما يحمله من قضية ذات صلة بعصرنا الراهن، أو قيمة يمكن إسقاطها على مجريات حياتنا الآنية، بتعقيداتها وزخمها الاجتماعي والسياسي والإنساني، وأن التقنيات الفنية والتجريب والابتكار هي آخر ما يشغل المحكمين، كونهم ينتمون إلى مشارب شتى قلما تعنيهم هذه الحرفية الخالصة.
لكن ظنوني خابت بعد قراءة "موت صغير"، فلا الموضوع ذو وشيجة بقضايانا المعاصرة، ولا جسور من تشابه أو إسقاطات على الراهن يمكن تلمسها في مجريات الأحداث الغابرة، اللهم إلا العناية بالموروث وتعهده، وإن بطريقة عفوية وخالية من المعنى الأعمق الذي تعوّل عليه الكتابة المؤثرة.وبعيداً عن مسألة جائزة البوكر، فإن رواية "موت صغير" لا غبار عليها كرواية اجتهدت في تحويل سيرة المتصوف محيي الدين بن عربي إلى حكاية إنسانية، تروي مجاهدات الترحّل بمعنييه؛ المادي والروحي، وترسم ما يعانيه الباحث عن معنى الحياة والإيمان من مكابدات. والحكاية تكاد تقف عند هذا الحد، ثم تظل تراوح حول تفاصيل التفاصيل عن تقلبات السياسة، ونظم الحكم عصرئذ، وعن علاقات قرابة وصداقة، ووقفات لقاء وفراق ورحيل وموت. بل اللافت للأمر، ألا يعير الكاتب فلسفة ابن عربي في التصوف انتباها حقيقيا، أو يضيؤها تحت بؤرة واضحة، إنما مسّها مسّاً عابراً في جمل مقتضبة! فباتت سيرة الشيخ باهتة ومرتجلة ومفتقرة إلى العمق الذي تستحقه. بل يكاد القارئ أن يشعر بتلك الصلة القلبية المنقطعة بين الكاتب وبطل روايته، كأنما هناك حاجز من غربة خالية من الحب بين الطرفين! والحب هو أكثر ما يُعوَّل عليه في كتابة السير الناجحة والمؤثرة. لا أدري لماذا أجد نفسي في موقف المقارنة بين روايتي محمد حسن علوان: (القندس) – التي سبق لي أن كتبتُ عنها – و(موت صغير)، فالأولى مفعمة بالفهم والحب، وفائحة برائحة الحَدْب على هشاشة الإنسان وعاهاته النفسية والروحية، مهما صغر شأن هذا الإنسان وهانت قيمته من منظور التميّز والعظمة. لكننا للأسف، نفتقد هذا الحس بالقرب والفهم في الثانية (موت صغير)، رغم الظل الكبير الذي يمثله محيي الدين بن عربي كعَلَم في التصوف، وكرمز التراث الأدبي والفكري. لا أعتقد أن الاقتراب من الشخصيات التاريخية والتراثية يورث الغربة، أو يستدعي التحفظ في التحاور معها وفهم قرارة أرواحها الغابرة، إنما يبقى التعويل على الحب أساسيا في المقام الأول، ثم الذكاء في سبر منعطفات العلاقة القلبية والعقلية مع تلك الشخصية والاشتغال على تحويلها إلى حب مشاع للقارئ والمتلقي. استحضر هذا الخاطر وأنا بصدد تذكر رواية "قواعد العشق الأربعون" لأليف شافاق، والتي نالت شهرة عالمية وحظوة لدى ملايين القراء، رغم أن بطليها شخصيتان تراثيتان، هما: جلال الدين الرومي وشمس تبريزي. فقد كُتبت الرواية بحب كبير، وشغف نادر، بكل ما يمثله مذهب هذين الصوفيين من رؤى وروحانية وحكمة، فكان هذا الشغف هو الجسر الذي أضاء قلب كل قارئ، وخلق تلك الآصرة مع الرواية وأبطالها. تبقى مقولة ابن عربي: "الحبُ موتٌ صغير"، أرجوحة معلّقة في فضاء الرواية، لم تسْتوفِ حقها من الكاتب، رغم اجتهاده وصبره في تقصي المعلومة التاريخية، وتدبيج سياقاتها من مظانها. لكنها، بلا شك، مقولة ستظل مضيئة في سياق الكشف العرفاني لصوفي عاش تجربة الحب والموت.
توابل - ثقافات
الحبُّ موتٌ صغير
18-07-2017