يغلب على معظم كتاباتك طابع الغموض، فهل هو أسلوب تعبير مقصود كي لا يخترق القارئ حرمة ذاتك؟

غالبا ما أسمع هذا الانطباع: «نصك صعب.. ماذا تقصدين هنا؟». لم أسعَ يوماً إلى الغموض، لكنني في المقابل لا أسعى إلى أن أكون واضحة. بين الغموض والوضوح ثمة فلسفة قديمة.. قد تكون بديهية كالمياه أو الخيال.. لكن ماذا عن قعر البئر؟ ينتج عن الخيال والماء ما يفوق لاوعي الجماعات على تصوره.. أرشيف من العبارات والتماهيات والاتصال بالماورائيات. من هنا يبدأ الشعر.وعلى الآخر تقصي أعماقه حتى لو كان الثمن الهاوية بذاتها.

Ad

في مجموعاتك الشعرية الثلاث «سأقص على النسيان حكايات طويلة»، و«أتثاءب في مخيلة قطة»، و«استدرت الألمس خيالي فترملت»، تمرّد على اللغة ولعب على المجازات، فهل تقصدين من وراء ذلك كله إخفاء كيانك الشخصي والتركيز على كيان القصيدة شكلا ومضموناً؟

اللعب مع اللغة فن، علينا اتقانه كشعراء. ألعب ضمن قدراتي. أدخل متاهة «سكينر»... مجرد فأرة تجربة، لكنني عوض أن أبحث عن مخرج، أقرض المتاهة محاولةً نسج الطرقات ببعضها. من كل خيط أصنع رؤيا بعيدة وقريبة من الواقع في آن. أدخل البيت من جهتين مختلفتين. أعرج أحياناً من تزاحم المجازات.. في كل مرة أعيد بناء «الأنا» التي تبدو كعكاز للعبة صينية.

تداخل الفنون

من موقعك كشاعرة، هل تؤمنين بتداخل الفنون في النص الأدبي أم تفضلين أن يبقى كل فن مستقلاً عن الآخر، بمعنى أنك للتعبير عن أفكارك تدخلين في شعرك الرواية والمسرح والفلسفة على سبيل المثال؟

الفنون مُتداخلة منذ الأزل، ولا يمكن لأحد فصل آثارها حتى الجانبية عن بعضها البعض. الفنون ومنذ لحظة الخلق الأولى ألهت الحواس في مواجهة قطبي العقل والقلب، فالتجارب الأولى أو الأخيرة مع الوجود التي خاضها البشر بمواهبهم كافة أدت إلى تداعيات بين الفلسفة والمسرح والرواية وغيرها من الفنون. لذلك ما من فن محايد. أنا مع انصهار الفنون وتلاقيها في محاولة لتفكيك هذا الكون الهائل.

هل الشعر بالنسبة إليك رسم عالم جديد بألوان من السحر حيناً والوهم حيناً آخر، أم هو مجموعة إيحاءات من الواقع؟

الواقع ليس ببعيد عن الخيال. ما يجري من حوارات مع الذات يصلح لأن يكون سحراً.. صياغة الأحلام من الوعي واللاوعي مما تقوله التماثيل في السر هو من هموم الشاعر. لذلك أكتب ما لا يسمعه الآخرون وما لا تعرفه نفسي. أكتب ما هو خيالي أكثر من الواقع، وسوريالي أكثر من ثوب جدتي وهي تهرع لحلب البقرة صباحاً، قبل أن يبزع الضوء على المرآة التي أراقب منها العالم.

استطراداً على السؤال السابق، هل الشعر بالنسبة إليك مسرح الشاعر الذي لا يجوز لأحد غيره أن يخترقه، أم هو مساحة تفاعل مفتوحة بين الواقع والخيال؟

لكل شاعر مسرحه. الواقع جزء من الدمى التي يحركها بالخيطان بحثاً عن معان إضافية للزمن. الخشبة ليست متينة بما يكفي لكنها تصلح للنفوس المغامرة. إنها أشبه بارتداء ثياب هندية حمراء مع ريش يموه الحياة من حولنا. المزج بين الواقع والخيال ليس سهلاً، لكنه ليس صعباً أيضاً لمن اختار أداء دور في زقاق يرتاده الخارجون عن المألوف: حين يمتلئ المسرح يقع المشاهد عن الكرسي لأن انعكاس الصور عليه أصعب من الكاتب الذي اعتاد ترويض خياله ولو بالانتحار.

عصيان وعبثية

في ديوانك الأخير «استدرت لألمس خيالي فترملت»، عصيان على العقل، وانغماس في ما يشبه الوهم، فهل تعتبرين أن من حق الشاعر تصوير عبثية الحياة والدخول إلى عوالم اللاوعي واللامحسوس وابتكار لغة خاصة به؟

كتابي الأخير عبثي إلى حد ما.. عكس تعلقي ببعض الشخصيات الغريبة ومحاولة التماهي معها مثل شخصية مصمم الأزياء إيف سان لوران وشارلي شابلن وبياف وغيرهم. كذلك ثمة عبثية في النصوص الأخرى لكنها ليست بعزلة عما أعيشه. أكتب ما هو أعمق مني... أكتب ما أنا عليه من دون قصد أو مبالغة. أجد السعادة كلما اكتشفت أنني أخرى سواء أرملة أو عانساً أو ساقية.. فالشعر انحناء الظهر على صفحة مياه تتجمع تحتها الغوايات.

يبدو من شعرك أنك تبحثين عن ذاتك أو خيالك وسط الضبابية والسراب، وأنك لم تجديها بعد فترمّلت، فعن أي ذات تبحثين؟ ذات الشاعرة أو المرأة؟

أبحث عن ذات الشاعرة والمرأة وذوات أخرى... أبحث عن تعددي في الحياة. حتى ولو كنت قطة أو في النهاية محارة ستذوب تاركة ندبة في الوجود. أبحث عن رنيم في كوم الذكريات، في الخرابات، في كومة خردوات، في عجين أمي، في سروال جدي. أبحث طوال الوقت عن مصيري، وبالتالي أتساءل كما يفعل الجميع؟ هل أنا موجودة حقاً في مكان بذاته؟ وهل ما أكتبه ملموس أو مجرد أظفار حمر تلمع في العتمة؟ لولا هذا الضباب الذي أرسمه كهالة وأحاول صنع فقاقيع من مظهره لما ترمّلت قصيدتي حين استدرت لألمس خيالي.

ما الذي يدفعك إلى اللجوء إلى الكتابة؟ حالة، قضية، حادثة ما أم رغبة معينة تحرك مشاعرك فتنقلك إلى فضاءات الكتابة الرحبة؟

ما يدفعني إلى الكتابة أمر غير ملموس. ربما رغبة بإفراغ الذات، أتوقف فترات طويلة عن الكتابة. أبدو كأنني لم أكتب يوماً، أعود هائمة، وأترك لأفكاري حرية صياغة مشهد. لا أتدخل في السيناريو الأول، بل تخرج التداعيات على شكل هوامات بدائية. في المرحلة التالية، أرتب النص وأشذبه ليلائم التجربة الجديدة.

في دواوينك الثلاثة، سوريالية تتخللها صور من الطفولة أحياناً، وأخرى من الذاكرة، فهل تقصدين بذلك التحليق في الأزمنة والأمكنة والفضاءات اللامتناهية من دون قيود؟

«أعود إلى طفولتي/ متورمة بالعادات/ لأن الولادة مرعبة/ أحشو بطني بوسادة/ وألد الفراغ..»/ في العلب الصغيرة/ زينتي وحليي/ ما أتلفته الذاكرة/ وما عصي عليه النسيان»...

وغيرها من القصائد التي تتصل برائحة الطفولة ورموزها، سواء في القرية أو المدينة أو على سطح البيت حيث السماء أقرب من الأرض هناك... أخذتني زلات قدمي إلى الحقل حيث يمتزج النسيان بالوقوع في حفرة لم ينتبه إليها حمار جدي المنهك... كانت الأحلام أكثر وفرة من نقيق الضفادع في الليل. ليس سهلاً الخروج من تلك المياه الناسكة أو تحميض المشاهد البدائية للذاكرة، أو تلافي علكة الطفولة الملونة التي علقت في فستاني الجديد. تأمّل الأمكنة خلق لدي رغبة بالصمت والكتابة في ذلك المساء كانت احتمال كلام.

كانت الطفولة جزءاً حالماً من شخصيتي الناقصة ليلاً... في كل زقاق من أزقتها تقاطع تسرح فيه نوافذ خشبية تتراءى من خلالها ظلال كائنات تشبهني وأنا أقصّ على النسيان حكايات طويلة.

زوجة شاعر

كونها زوجة شاعر (شوقي بزيع) يرتسم في الأذهان سؤالان تلقائيان: إلى أي مدى تتأثر به، وكيف تحافظ على كيانها الشعري المستقل بمعزل عنه؟ تجيب رنيم: «كلما تحدث الآخرون عنا يشيرون إلى الاختلاف بيننا.. شعر شوقي بزيع يميل إلى الضوء ومشاهد القرية مع عمق فلسفي يتضح في قصائده، إضافة إلى ثقافته الواسعة التي تظهر كونه قارئاً نهماً... واهتمامه بالوزن والموسيقى الداخلية للقصيدة كونه شاعر وزن... والصور التي لا تحصى كونها تضجّ في المخيلة كرقصة سالومي... شعري مختلف، فهو متجذر في العتمة والعالم السفلي والأقبية وزلات الزمن... فيه كثير من الحشرات الضئيلة التي يراها من عاشر الجدران الرطبة وتخيل الصحف كيف تطبع في ذلك العراء المغاير لسطح السفن... كلانا يستمع إلى نص الآخر ويهتم بتجربته ويبدي رأيه، لكن لا مجال للشك في أن كلاً منا يغني على ليلاه في نصه».