اللهم لا أنحاز إلا... للشعر!
المعارك الأدبية والثقافية التي تُفتعل بين حين وآخر ويُقصد منها الانتقاص من مكانة الشعر في المشهد الثقافي مقارنة بأشكال الإبداع الأخرى، وخصوصاً الرواية على أساس أن شهية المستهلك مفتوحة للرواية أكثر منها للشعر، أو نحو ذلك من المقارنات والمقاربات أو المفارقات، كلها ليست سوى معارك هزلية لم تستعِر من الرياح إلا صفيرها المزعج! إن أي مقارنة بين الشعر وأي من أشكال الإبداع الأخرى معارك لا تجوز وليست عادلة، فالشعر في جوهره يختلف عن بقية أشكال الإبداع، وإن كان من شجرتها، إن لم يكن هو شجرتها، فالشعر جزء من الشاعر بخلاف كل أشكال الإبداع، فقيمة المنتج الشعري الأدبية تتأثر بقيمة الشاعر الإنسانية سلباً أو إيجاباً، فشعر الحماسة مثلاً لشاعر عُرف عنه جُبنه يؤثر سلباً على قيمة شعره، والشاعر الذي عرف ببخله لن تؤخذ قصائده عن فضل الكرم على محمل الجد مهما بلغ إبداعها، هذا يثبت أن انصهار كل من الشاعر والشعر يبلغ حداً لا يمكن بلوغه من خلال الفنون الأخرى، فكم استمعنا لقصة يرويها التراث لنا عن شعراء ذهبوا ضحية إثبات مصداقية ما قالوه شعراً، وليس سوى الشاعر يُلقي ظلال شخصيته على نتاج إبداعه عند تقييمه، بينما الروائي مثلاً يملك الحق في أن يتنصّل من الانتساب لشخصياته التي يبتدعها دون أن ينقص ذلك من قيمة إبداعه، وقد لا نفقد الحيادية في تقييم لوحة غاية في الإبداع من الناحية الجمالية لشاب يقبّل إحدى قدمي أمه العجوز على الكرسي "المُدوْلب"، حتى لو علمنا أن هذه اللوحة لرسام يقضي فترة عقوبته في السجن بتهمة قتله أمه المسنّة على كرسيها المتحرك، ويستطيع العازف أن يعزف لحناً شجياً تأسرنا عذوبته، حتى وإن علمنا علم اليقين أن العازف على المستوى الشخصي قاسي الطبع، جلف! هذا لا يحدث في الشعر!
كل أشكال الإبداع الأخرى لا تُؤخذ بجريرة مُبدعها، إلا الشعر، كل أشكال الإبداع توجِد بينها وبين مبدعيها مساحة تضيق بحجم شعرة وتتسع بحجم النقيض، إلا الشعر، الشعراء وحدهم لا يملكون هذه المساحة الرمادية بينهم وبين ما يبدعون، لا توجد هذه المحمية من الخصوصية بين الشعر والشاعر، قيمة المنتج الشعري تتحدد بمدى تشابهه مع مبدعه، لا مجال في الشعر لرؤية الخيط الأبيض والأسود (الشعر والشاعر)، لذا فإن الشاعر الحقيقي هو المبدع الوحيد الذي لابد له أن يعيش نصه خارج نطاق الشعر، لابد أن يشبه قصيدته وإلا اتُّهم بالتزوير وانتحال الشخصية وصودرت "بضاعته"، في الشعر لا انفصام للشاعر عن نصه في تقييم مُنجزه الإبداعي، فكيف يستوي الشعر وباقي أشكال الإبداع الأخرى؟! وكيف يمكن المقارنة في أيهما أكثر التصاقاً بالإنسان وأبقى؟!