لم تغب إيران يوماً عن المشهد السياسي الكردي في إقليم كردستان، كانت حاضرة بقوة في صياغة القرارات وتوجيه السياسات والتدخل في خصوصيات البيت الكردي، وتشكيل "لوبي" قوي داخل الأحزاب الكردية المتنفذة، ومن بين قادتها الكبار، ورغم وجود علاقة دبلوماسية اعتيادية مع الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه رئيس الإقليم مسعود بارزاني، فإنها لم تصل إلى المستوى الذي يسمح لها بفرض الأجندة والإملاءات السياسية المباشرة، وقد حاولت التغلغل إلى داخل حزب بارزاني الذي يمسك بالسلطة الحقيقية في الإقليم والوصول إلى مصدر قراراته السياسية المهمة، كما هو الحال مع الكثير من الأحزاب العراقية في بغداد والأحزاب والميليشيات التابعة لها في الدول العربية، ولكنها فشلت بسبب متانة الحزب الديمقراطي الداخلية ومركزيته القوية التي تخضع مباشرة لبارزاني، كل خيوط اللعبة السياسية الأساسية في الإقليم بيده وغير مسموح لأحد، مهما كان منصبه الكبير في الحزب والحكومة، أن يتلاعب بثوابت الشعب، ويعرض أمن الإقليم ومستقبله للخطر، وهذا ما جعل الإقليم من أكثر مناطق العراق أمنا واستقراراً يتوجه إليه العراقيون وغير العراقيين هربا من أوضاعهم المتردية، ومما يجدر ذكره أن قرابة المليونين من النازحين واللاجئين موجودون في إقليم كردستان. ومع اندلاع الثورة السورية الشعبية ضد سلطة بشار الأسد الطائفية في 2011 وتدخل طهران فيها بقوة، ازداد الاحتياج إلى ممر آمن لنقل المساعدات اللوجستية والعسكرية إلى سورية بأقصر الطرق وأسهلها، ولم يكن إقليم كردستان، وخاصة المناطق التي تخضع لنفوذ حزب بارزاني في مدينتي أربيل ودهوك، يمثل فحسب تلك الأهمية الاستراتيجية لإيران التي استطاعت أن تخضع أماكن كثيرة في المنطقة لنفوذها المباشر، بل مثّل تحدياً صارخاً لمخططاتها التوسعية وجداراً صلباً بوجه أطماعها السياسية والفكرية والمذهبية.
وإزاء رفض بارزاني لمطالب إيران المتكررة في السماح لها بالتواصل مع حليفتها سورية عبر الإقليم لإمدادها بالدعم اللوجستي والعسكري، وإقدامه على عقد تحالف استراتيجي مع عدوتها التاريخية اللدودة تركيا، وفتح أبواب الإقليم على مصاريعها لشركاتها ومشاريعها الاستثمارية وارتقاء العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين إلى مستوى استراتيجي عالٍ، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما في يوم من الأيام إلى 10 مليارات دولار، والأهم والأخطر أن إقليم كردستان تحول إلى مجال جيوسياسي حيوي للأمن التركي، لا يمكن اختراقه او تجاوزه، كل هذا دفع إيران إلى تصنيفه عدواً تجب محاربته ومعاقبته من خلال حلفائه في بغداد، وعلى رأسهم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي خاض صراعاً عبثياً طويلاً مع بارزاني استمر سنوات تخلله تهديد عسكري مباشر لقوات البيشمركة المرابطة على تخوم مدينة كركوك المتنازع عليها عام 2012 من خلال استحداثه لقيادة عمليات دجلة عام 2012، وكذلك تحريك دباباته وآلياته العسكرية تجاه مدينة (خانقين) عام 2008 بسبب رفع الكرد للعلم الكردستاني من على دوائر ومؤسسات المدينة! وهي نفس الأزمة التي كرروها في كركوك عندما قرر مجلس المحافظة في أبريل هذا العام رفع العلم الكردي على مؤسسات المدينة جنبا إلى جنب مع العلم العراقي، الأمر الذي أثار حفيظة بعض الفصائل التركمانية والعربية ودفعها إلى مطالبة حكومة العبادي باستقدام قوات أمنية نظامية إلى المدينة للحد من النفوذ الكردي الواسع فيها، ومنع الاستفتاء المزمع إجراؤه تمهيدا لضمها الى إقليم كردستان فيما بعد، ولكن عندما وجد المالكي أن قواته غير قادرة على مواجهة القوات الكردية وسيؤول مصير مغامرته إلى الفشل، لجأ بإيعاز من إيران طبعا إلى فرض حصار اقتصادي شديد على الإقليم ومنع عنه الميزانية الحكومية المخصصة له بذرائع نفطية واهية، رغم أن الكتل الشيعية في البرلمان هي التي عطلت تشريع القوانين المهمة ووقفت حائلاً دون إصدارها، ومن أهمها قانون النفط والغاز الذي لو أقرته لحلت مشاكل كثيرة عالقة بين أربيل وبغداد، ولكن إصرارها على الهيمنة وفرض أجندتها الطائفية الخارجية على الآخرين، هو الذي وضع العراق في أزمة دائمة قد لا يخرج منها أبداً.* كاتب عراقي
مقالات - اضافات
واحة الاستقرار الوحيدة في العراق معرضة للخطر
21-07-2017