الإعلام المصري يراوح في أزماته
تفشي الأخطاء من نوع «خلط الرأي بالخبر» أو «خلط الإعلان بالإعلام»، أو «محاباة طرف ضد طرف»، أو «تشويه الحقائق»، أو «تجاهل السياق»، أو «الحجب والتعتيم»، أو «تجهيل المصادر»، وغيرها... يحدث باستمرار في صناعة الإعلام المصرية، وبوتيرة متصاعدة، ومن دون مراجعة أو حساب.
لا يمكن فصل الحال التي وصل إليها الإعلام في مصر خلال السنوات الفائتة عن حال الارتباك والخلل التي تعيشها البلاد في جميع المجالات.وبوصفه صناعة، فإن معايير الجودة الخاصة به قد تكون متدنية كما هي الحال في بقية الصناعات، وإذا نظرنا إليه على أنه خدمة، فإن التردي الذي ضرب الخدمات كلها لم يستثنه بالطبع، وباعتباره نشاطاً إنسانياً، فإن التراجع الذي أصاب كل الأنشطة الإنسانية قد أصابه بكل تأكيد.لكن الإشكال الكبير الذي يتعلق بملف الإعلام المصري يكمن في أنه صناعة أكثر تأثيراً من معظم الصناعات، ونشاط إنساني أعمق وأهم من أنشطة كثيرة، وخدمة حيوية لا يمكن الاستغناء عنها، ومجال لصياغة الرأي العام، وبلورة المواقف، وتطوير السياسات، وتقييم الحكومات، وتحديد الأولويات الوطنية، وإدامة العقل العام أو خطفه وتسطيحه.
للأسف الشديد، فإن الإعلام المصري خلال السنوات الأخيرة بات ميداناً لصناعة القيم المضادة والترويج لها والعمل من خلالها.ستتحمل السلطات العامة مسؤولية كبيرة عن حال الخلل التي يعانيها الإعلام الآن، لأنها أخفقت في تنظيم المجال الإعلامي، وعاندت المطالب الرامية إلى تأمين الحريات، وأظهرت الحرص الكبير على تطويع الإعلام واستخدامه كأداة دعاية بدلاً من تحريره وتطويره ليصبح أداة استنارة.وسيشارك الجمهور في المسؤولية بكل تأكيد، لأنه أظهر إفراطاً في "تعاطي" المواد الإعلامية الرديئة، وراح يشجع الممارسات الحادة والمنفلتة، ويحتفي بها، ويروج لها، في الوقت الذي انصرف فيه عن كثير من المبادرات المهنية المسؤولة، ولم يساند أنماط الأداء الرشيد بالشكل الواجب.وستسهم الأكاديمية، ومنظمات المجتمع المدني المعنية، بقدر من المسؤولية عن تردي الأداء الإعلامي العام، خصوصاً أن تلك الدرجة من التدني لم يكن من السهل أبداً الوصول إليها إلا من خلال خريجين غير مؤهلين بما يكفي، ونظام "دقة عامة مجتمعية" قاصر ورخو، لم يقم بدوره في المتابعة وإخضاع الأداء الإعلامي للتقييم ومساءلة المخطئين والمتجاوزين مجتمعياً وأخلاقياً على النحو اللازم.لكن الإعلاميين والصحافيين يتحملون المسؤولية الكبيرة عن هذا التدني، ومعهم بكل تأكيد هؤلاء الذين امتلكوا وسائل الإعلام الجماهيرية لتوظيفها في خدمة مصالح سياسية أو تجارية، أو للتغطية على جرائمهم الجنائية، أو لغسل سمعتهم، أو لغسل أموالهم، أو لاتخاذ نقاط ارتكاز فعالة، تيسر لهم التأثير في المجال العام والسياسة العامة بما يحقق أغراضاً غير معلومة أو معلنة.نحن لا نعرف على وجه اليقين "من يملك ماذا؟" في مجال الإعلام الخاص في مصر.الأنكى من ذلك، أن حجم ما تم ضخه في صناعة الإعلام خلال السنوات التي تلت "ثورة 25 يناير" بلغ على الأقل ثلاثة أمثال عائد الإعلان الذي يعد المورد الطبيعي والصحي والمنطقي لإدامة الصناعة.يعني ذلك أن جنيهين من كل ثلاثة جنيهات تم إنفاقها على صناعة الإعلام في مصر خلال السنوات الخمس الفائتة لم يكونا بغرض الاستثمار، ولا استهدفا الجدوى، ولا أرادا تطوير الصناعة نفسها، وإنما استهدفا أشياء أخرى لا نعلمها كلها بالضرورة، ولا نعلم من الذي يقف وراءها. الإعلام المملوك للدولة، بأشكاله المختلفة، كان أقل صخباً ومجاراة للخطل في أنماط الأداء، لكنه لم يستطع أن يكون مصدر الاعتماد الرئيس للجمهور وفق بيان مهمته، وقد حرم المواطنين والدولة من نحو خمسة مليارات جنيه سنوياً، لم يحسن استخدامها لتقديم خدمات لائقة، ولم يتركها للدولة لإنفاقها في أغراض أخرى أكثر إلحاحاً.وبشكل عام فقد أخفق الإعلام بشقيه الخاص والمملوك للدولة في مخاطبة الخارج، فلم تمتلك مصر صوتاً يوصل ذرائعها وحججها إلى العالم بطريقة سلسة وفعالة في أحلك الأوقات التي مرت بها خلال السنوات الخمس الفائتة. كل هذا الصخب الذي صدع رؤوس الجمهور المصري، وكل هذه المليارات، وكل هؤلاء المذيعين والمذيعات، ومنهم "المذيع القائد، والمذيع الفيلسوف، والمذيع الملهم، والمذيع المُعلم"، لم يوصلوا صوت مصر وذرائعها إلى خارج حدود البلاد.ولولا بعض وسائل الإعلام الإقليمية النافذة، التي تصادف أن الدول التي تملكها كانت تريد مساندة بعض السياسات المصرية في الأعوام الأخيرة، لكانت مصر بلا أي صوت في إقليمها أو في العالم.ليس هذا فقط، لكن بعض الصحافيين والمذيعين المصريين نجح في صناعة أزمات سياسية على أعلى مستوى، لا لأنه يخدم تصوراً سياسياً محدداً، أو يعمل لمصلحة دولة أو تيار، ولكن فقط ليكسب عدداً أكبر من المشاهدات والتعليقات على برنامجه أو مقاله.إن تفشي الأخطاء من نوع "خلط الرأي بالخبر" أو "خلط الإعلان بالإعلام"، أو "محاباة طرف ضد طرف"، أو "تشويه الحقائق"، أو "تجاهل السياق"، أو "الحجب والتعتيم"، أو "تجهيل المصادر"، وغيرها يحدث باستمرار في صناعة الإعلام المصرية، وبوتيرة متصاعدة، ومن دون مراجعة أو حساب.إن هذا الأمر يقلقني، لكنه ليس أكبر المخاطر التي تواجهها صناعة الإعلام... فأكبر المخاطر التي تواجه تلك الصناعة اليوم: "سيادة القيم المضادة".لا تكتفي صناعة الإعلام بالممارسة الخاطئة، لكنها تكسبها قيمة، وترسيها كمبدأ، وتطلبها كمعيار، وتكافئ عليها كإجادة.وفي المقابل، فإن مزايا صناعة الإعلام المصرية، كما الفرص المتاحة أمامها، تضيق، في وقت تتسع فيه العيوب، وتتفاقم معها المخاطر.ما زال هناك قطاع من الإعلاميين والصحافيين المصريين يقبضون على الجمر، ويحاولون المنافسة في ميدان عشوائي بقواعد معكوسة تحرسها القيم المضادة.بعض هؤلاء خرج من الميدان وجلس في منزله، بعدما أدرك أن قدراته على السباحة ضد التيار أقل من أن تؤمن له الطفو، والبعض الآخر تم إبلاغه بضرورة الانصراف، وآخرون بدّلوا تبديلاً، حتى يمكنهم الاستمرار.عدد قليل من وسائل الإعلام الخاصة والعامة مازال يمتلك الاتجاه والرؤية ويحاول أن ينتصر للقيم "غير المضادة"، لكن الظروف لا تساعده، والسوق تضيق عليه، والواقع يضغطه ويرهقه.إصلاح الإعلام في مصر يبدأ من السياسة، لكنه لن ينجح من دون إرادة وعمل أطراف الصناعة كلها.* كاتب مصري
بعض الإعلاميين المصريين خرج من الميدان بعدما أدرك أن قدراته على السباحة ضد التيار أقل من أن تؤمن له الطفو