«جائزة نوبل للسلام لا تصل إلى من يستحقها. يصادرها المشهورون والأفّاقون والمزيفون. أبطالها منافقون، بينما البطل الحقيقي هو الإنسان العادي. أي إنسان، لأننا جميعنا نجترح معجزات وبطولات صغيرة كل يوم» وغيرها من أفكار سطرها الوالد...ليثبت ذلك، يخلق الابن من امرأة ظالمة جبارة بطلة على مستوى جمعيات حقوق الإنسان. كذبة يجترعها الجميع، ليثبت الولد صوابية أفكار والده المتروكة على ورق، والتي أرّقته طوال حياته.
إلى جانب الابن والوالد ثمة عمة تجمع زجاجات ومعلبات فارغة، وأخت تربطها علاقة سادية مع سكرتيرتها في عيادتها لطب الأسنان، وامرأة تحتضن في فرنسا ثمرة حبّ جنتها من عشيقها اللبناني الذي شكت حبها له لسيدة الشاشة العربية، في رسائل وقعت في أيدي أفراد من الجيش السوري حين دخلوا لبنان ووصلت في النهاية إلى الوالد ومنه إلى ولده. الولد الذي لا يخلع القميص الأبيض، سيقلب المعادلة ويتخلّى عن هوسه الموروث بعدما كادت خطته تصل إلى منتهاها. ذلك أنّ أبطال راهيم حساوي في «الباندا» أكبر من الحبكة والنص، لا يروّضهم مسار ولا تأسرهم نهايات، تصرّفاتهم غير مرتقبة وسلوكهم متحرّر من القوالب كافة. نصّ راهيم حساوي يحفر حفراً في النفس البشرية ليقدّم شخصيات ملوثة هستيرية وغاية في الواقعية. تشريح نفسي دقيق ولمّاح في قالب روائي مثير وشيّق. «الباندا» هي الرواية الثانية لراهيم حساوي من مواليد 1980، بعد «الشاهدات رأساً على عقب» (2013). عمِل الكاتب السوري المقيم في ألمانيا سنوات عدّة في التدريس، وهو يهوى لعب الشطرنج وكرة الطاولة.
مقطع من الرواية
منذ خمسة عشر عاماً مات والده. قتل نفسه برصاصة مسدس كان قد اشتراه ذات يوم للدفاع به عن نفسه وليس لقتل نفسه. اخترقت الرصاصة صدغه ليفارق الحياة التي أدهشته بكلّ ما فيها من دهشة وأدهشها بتلك الرصاصة بكلّ ما فيها من مباغتة غير متوقعة لأيّ أحد ما عدا أخته سعاد. كان العالم مُدهشاً بالنسبة إليه حتّى على مستوى كسر بيضة في مقلاة، وكان يضحك كثيراً كلّما كسر بيضة في مقلاة أو كلّما رأى أخته سعاد تكسر البيض في المقلاة، وكانت تشاركه هذه الضحكات من دون معرفة دقيقة للسبب الذي يقوده للضحك في هذا الموقف.لقد قتل عاصم التل نفسه في مكتبه ممدّداً على الأريكة التي بجانب النافذة المُطلّة على شارع طويل. أمّا النافذة الثانية فلقد كان يستطيع من خلالها رؤية البناء الذي يحتوي على شقته التي يعيش فيها مع زوجته رحاب وولده عمران وابنته جيداء وأخته سعاد. لقد قتل نفسه في ليلة شتائيّة عاصفة، زاد انقطاع التيار الكهربائيّ من كآبتها واضطرابها. كلّ ما يدور كان يشير إلى أنّ شيئاً ما سيحدث في تلك الليلة. كانت السماء تتكسّر مثل وعاء زجاجيّ بداخله حمم بركان صغيرة تتحرك باتجاهات متعاكسة مصطدمة بعضها ببعض. تهشّمت مظلّات القصب التي كانت فوق أسطح الأبنية، وأجهزت الأمطار الغزيرة على بقايا الطلاء القديم المتشقّق على الجدران الخارجيّة لبعض الأبنية المهجورة، ليكون مصير هذا الطلاء ضمن سيول انحدرت نحو المنخفضات والزوايا التي صارت على شكل برك من الماء تطفو عليها الأكياس والأوراق وعُلب السجائر والكبريت والكثير من أعقاب السجائر. كانت ليلةً موحشة.