أدخلت الأزمة الخليجية الحالية منظمة مجلس التعاون في حالة مرضية غير مسبوقة، ربما كانت أعراضها أقدم من خلافاتها السياسية الحالية.

ورغم أن هذه هي المرة الأولى التي تصل فيها خلافات دول الإقليم الى مستوى متأزم جداً من العلاقة البينية، فإنها ليست أول الخلافات، فقبل عدة سنوات قريبة دخلت المنطقة في أزمة سحب سفراء السعودية والإمارات والبحرين من قطر، وكادت وقتها تعصف بكيان منظمة مجلس التعاون، وقبلها وبعدها أيضا ثار العديد من الخلافات الثنائية بين الدول الاعضاء، مما يشير الى ان هذه المنظمة تعاني بذور الشقاق التي تتجدد بين حين وآخر، وتتصاعد حدتها أو تقل بسبب هيكلتها وأساليب الادارة العامة لدى دولها الاعضاء، حتى باتت كل دولة في مجلس التعاون الخليجي لديها مشكلة أو ازمة مع دولة أخرى، على الاقل في نفس المنظمة، في وقت تواجه فيه المنطقة تحديات اقتصادية ومالية تتعلق بالاستدامة، لا تقل اهمية عن اي تحديات أمنية او سياسية.

Ad

عوامل الخلاف

بذور الشقاق في منظمة مجلس التعاون كثيرة وقابلة للنمو، مهما كانت عوامل الخلاف محدودة أو ضئيلة، لكن يمكن حصرها في محورين أساسيين؛ الأول: أن منظمة مجلس التعاون يغلب عليها الطابع السياسي والأمني، على حساب اهتمامات دول المنظمة بالجوانب الاقتصادية والتنموية، أما الثاني فيتعلق بأساليب الادارة العامة وغياب المشاركة الشعبية، في معظم دول المنطقة، مما يضعف من جودة القرارات وآلية تنفيذها، وربما يجعل المنطقة تحت وطأة قرارات منفردة.

ولم تعد مسائل الاقتصاد الخليجية الملحة تلك التي لم ينجح مجلس التعاون في تنفيذها على مدى 36 عاماً من تأسيسه، كالاتحاد الجمركي أو السوق الخليجية المشتركة أو العملة الموحدة والبنك المركزي الخليجي وغيرها كثير من قضايا التكامل الاقتصادي، مثل عمليات التجارة البينية، أو تسهيل وتوحيد قواعد الإنتاج والتصدير والاستيراد، ولكن باتت تحديات الاقتصاد الخليجي، خلال السنوات الماضية، أكبر حجما وأكثر قلقا لمستقبل الإقليم، وأبرزها انكشاف دول الخليج على تراجع اسعار النفط وتدني جاذبيته، مع ظهور المنافسين غير التقليديين في السوق، إلى جانب دخول سوق الديون وما يترتب عليه من التزامات تُوجب القيام بإصلاحات اقتصادية أساسية وجوهرية، تضمن التعامل مع الاوضاع الاقتصادية الجديدة، التي تماثل في جديتها أي تحدٍّ سياسي أو امني مفترض.

ومنذ بداية الأزمة المالية العالمية 2008، إلى انخفاض اسعار النفط 2014 ومرور 3 سنوات على الأزمة الجديدة، لم يكن للملف الاقتصادي حظ على طاولة القمم الخليجية، مع ان الاهتمام بالاقتصاد يمكن ان يقدم للمنطقة، حال تشابك مصالحها مع الشركات والدول الكبرى، ضمانات امنية وسياسية لا تقدمها حتى صفقات الأسلحة والمعدات العسكرية.

في العالم، هناك العديد من المنظمات الإقليمية التي نجحت كلها في أن تتطور من المنظومة السياسية إلى المشروع الاقتصادي، مثل الاتحاد الأوروبي أو مجموعة دول آسيان، التي تضم مجموعة من الدول الآسيوية الناشئة، أو دول مجموعة «بريكس»، التي تجاوزت الحد الجغرافي إلى التماثل او التقارب الاقتصادي؛ اذ تضم دولاً صناعية كالبرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا وروسيا، بعكس دول الخليج التي رفعت من مستوى الاهتمام الأمني والسياسي، على حساب المشروع الاقتصادي، رغم ان التحديات الاقتصادية الحالية غير مسبوقة كأسعار النفط ومستقبله والالتزامات المالية والإنفاقية، وتتعلق باستدامة هذه الدول في المستقبل المنظور!

الغريب أن تعاطي دول مجلس التعاون مع ملف الاقتصاد أقل بكثير من دورها المفترض، فدول الخليج تستحوذ على أكبر احتياطي نفطي في العالم، يصل إلى 470 مليار برميل، أي ما يعادل 35 في المئة من إجمالي الاحتياطي العالمي من النفط الخام، ونحو 70 في المئة من إجمالي الاحتياطي العالمي لمنظمة الدول المصدرة للبترول «أوبك»، وتمتلك صناديق استثمار سيادي تناهز قيمتها ترليوني دولار أميركي.

الشق الثاني من بذور الشقاق في مجلس التعاون تتعلق بأساليب الإدارة العامة، مما يرفع من مستويات الاحتكاك بين الدول الاعضاء، وهذا يُوجب اعادة النظر لمصلحة دعم دور مؤسسات المجتمع المدني، والمشاركة الشعبية، وترشيد القرار على أكثر من مستوى، فهناك 3 من 4 دول خليجية غنية؛ هي الكويت والإمارات والسعودية، أعلنت مع هبوط اسعار النفط عن رؤى إصلاح اقتصادي بعيدة المدى، لمدد تصل الى 15 عاماً، مع ان المنطقة برمتها لم تستفد من سنوات الفوائض المالية الاستثنائية في بناء اقتصاديات رديفة تقيها أضرار تقلبات اسعار النفط، فتوجهت لسوق الديون في السنة الأولى من الانكشاف.

وفي حقيقة الأمر أن خطط الاصلاح الخليجية لا تعدو كونها تعهدات بلا التزام من المتعهدين، لأن طبيعة الادارة العامة في منطقة الخليج لا تسمح بالمحاسبة او حتى المتابعة.

ولنا أن نرصد احد صور عيوب الادارة العامة في الخليج، مع ازمة انخفاض اسعار النفط، فنجد ان دول الخليج خلال عام واحد، هو 2016، اتخذت مجموعة إجراءات فيها درجة عالية من الشدة تجاه المستهلكين، ففي بداية العام اتجهت لرفع اسعار الوقود والمحروقات، ثم أسعار الكهرباء والماء، ولم تُنه سنة 2016 إلا بتوافق على ضريبة القيمة المضافة، مما يرفع تقديرات التضخم في المنطقة، على نحو غير مسبوق، مع ان الادارة العامة الحكومية يجب أن تنظر للأضرار المجتمعية والاقتصادية، آخذةً في الاعتبار ان تكون اجراءات الاصلاح المالي ضمن مشروع واحد، لا قرارات متفرقة قد تكون آثارها المالية او المحاسبية جيدة، لكن نتائجها الاقتصادية والاجتماعية فادحة.

«دولفين» مثالاً

وسط هذه الأزمة الخليجية، يبرز مثال مشروع دولفين للغاز بين قطر والإمارات، الذي لم تتوقف عملياته، رغم انقطاع كل التعاملات السياسية والاقتصادية والتجارية وغيرها، كأحد الصور التي تدلل على أن المصالح الاقتصادية يمكن ان تحد من التهور السياسي، ربما لوجود شركاء أجانب، بحجم توتال الفرنسية وأوكسيدنتال الأميركية، يمتلكون نحو نصف المشروع. ومهما يكن التفسير، فالأولى هنا أن يعمم نموذج «دولفين» على علاقات دول المنطقة ومستثمريها، خصوصاً في قطاعات الاسهم والعقار والخدمات، ليكون هو القاعدة في التعامل، على اعتبار ان مصالح ابناء المنطقة وتشابكها أكثر أهمية وأولوية من اي خلافات سياسية، مهما تعقدت.

يبدو أن منظمة مجلس التعاون تعيش، حاليا، أسوأ واقع مر عليها، منذ تأسيسها قبل 36 عاماً، وأي حديث غير إعادة هيكلتها لتكون منظمة اقتصادية فاعلة، بالتزامن مع اصلاح نظم الادارة العامة، سيجعل بذور الشقاق تنمو وتكبر لتمتد آثارها على المنطقة وشعوبها ومستقبلها.