ويبدو أن عدم تذوق الكاتب لأنماط من الغناء والرقص مما كان يشهد على ظهر المركب لم يكن عائقاً أمام تقديره الجم لنمط العمل والكدح المتواصل الذي يبديه البحارة، مما لم يشهد له مثيلاً في سرعته وحرارته وجنونه، على حد تعبيره. وقد كرَّس الكاتب صفحات كثيرة للحديث عن إيقاع العمل الهادر بأسلوب يشي بالانبهار والدهشة: "هكذا كانوا يغنون جميعا. لقد كان الجهد المبذول في الغناء كافيا وحده لإرهاق أي رجل عادي قوي البنية في ذلك المناخ القاسي، فقد كانت العضلات متوترة، والعرق يسيل على سطح المركب دون أن يهتم به أحد. لقد كانوا يغنون بتلك القوة الهائلة المنبعثة من رجولتهم الجامحة، وكانوا يغنون بعنف وقوة تنبعث من حناجرهم كافية بحد ذاتها لرفع تلك العارضة". "كانوا يدقون الأرض بأقدامهم، ويصفقون بأيديهم المقروحة تصفيقا يتمشى من الأغنية، فتصدر عن تصفيقهم أصوات كأنها قرع الطبول... هكذا كان عبداللطيف يغني وقسمات وجهه تتلوى، بينما كان ظهره العريض مشدودا للعمل. وقفز بحارة آخرون يتسلقون الحبال كالقردة ويد أحدهم فوق يد الآخر، بينما الحبل يمر من بين أصابع أقدامهم. وتابعوا تسلقهم، وأجبروا الحبال على النزول، ثم تساقطوا وأجسادهم تقطر عرقا وهم يصيحون".
ورغم هذا العنفوان وتلك النفرة الجامحة نحو العمل، فإن هذا الملمح في حياة البحارة لم يكن ليبهر تلك الشخصية الغربية، لو لم يتوازن ذلك مع ملمح آخر يستكمل خلاله ذلك البحار الكادح شروط إنسانيته وتوازنه مع حياة يغلب عليها الشظف. وهنا يبرز عنصر الروحانية والقناعة والرضا بروزا يستحق التفات الكاتب، وربما يستحق منه أيضا مراجعته لكثير من مواقفه الحياتية: "كانوا يبدأون يومهم بالوضوء والصلاة. وفي صلاتهم كانوا دائما يولون وجوههم شطر مكة، ويفرشون الوزرة أو الكوفية على الأرض أمامهم، فلم يكن فقرهم يساعدهم على امتلاك حصيرة أو سجادة خاصة للصلاة، ويقفون دقيقة صامتين خاشعين متناسين كل هموم الدنيا ومشاكلها، ثم يبدأون القيام بسائر حركات الصلاة وشعائرها بشكل بسيط ومتناسق. وكان أمرا ممتعا لي أن أراقب التغيرات التي تطرأ على وجوههم، فقد كانت الملامح القاسية تخشع وتلين، ويخبو البريق الذي يشع في العادة في العيون المتغطرسة، ويتلاشى كل ما يمكن أن يكون هناك من الصلف والعجرفة والغرور. فلم يكن هناك أي رياء أو نفاق في تلك الوجوه القوية المتجهة إلى مكة، وكان من الواضح أن دينهم كان بالنسبة لهم أمرا جوهريا وحقيقة حية، فلم تكن صلاتهم مجرد أدعية تتلى وتراتيل تردد، بل كانت وسيلة للاتصال الحقيقي بإله يؤمنون بوجوده إيمانا قويا. فلم يكن أحد منهم يصلي على عجل، بل كانوا دائما يقضون بضع لحظات في بداية الصلاة في خشوع وتأمل وصمت يخلصون خلالها من التفكير بأمور الدنيا، وكنت أرقبهم وأنا أغبطهم على ذلك، لأني لم أكن أستطيع أن أتخلص من التفكير في الأمور الدنيوية بتلك السهولة"."وقد أدهشتني بساطة النظام المتبع على المركب، وهو نظام لا يحتاج إلى مجهود كبير، كما أعجبني جدا ذلك التناغم والوفاق والسعادة الدائمة التي كانوا يعملون في ظلها. وربما كان ذلك راجعا إلى أنهم كانوا فقراء لا يملكون سوى القليل من الملبس وبعض البضائع التي كانوا سيتاجرون بها، ولا شيء غير ذلك، أي انهم في واقع الأمر لم يكونوا يملكون شيئا. وقد بدأت بعد فترة من الزمن أتساءل عما إذا كانت فكرة ألا يملك المرء شيئاً من حطام الدنيا على الإطلاق فكرة جيدة؟!".
توابل - ثقافات
إطلالة على كتاب: أبناء السندباد (2-3)
01-08-2017