أصيلة... مدينة مضيئة
ساعات قليلة، وربما قليلة جداً، تخلو "أصيلة" لنفسها وبحرها ونسمات هوائها. ساعات قليلة، وقليلة جداً حين يصبح صوت الطير وشيء من هدير موج البحر ونسمة هواء عابرة من حديقة "الطيب صالح"، وهمس جدران المدينة القديمة باستذكار تواريخ كثيرة عبرت عليها.. من أراد أن يعرف "أصيلة" فعليه أن يتجول بهدوء في زقاقها الضيقة، والتي تشكّل لوحات تشكيلية ليست على الورق أو القماش، بل على جدران وأبواب وشبابيك ومآذن المساجد وعتبات البيوت وواجهات المحال، وأخيراً في خطوات مشي ناسها وزيهم الأندلسي ولهجتهم المحببة وابتساماتهم الطيبة."أصيلة" مدينة صغيرة، وصغيرة جداً، لا شيء يميزها عن أي مدينة مغربية أخرى، ولا عن أي مدينة عربية أخرى، سوى أنها قُدِّر لها أن يتبنى حضورها على خريطة العمل الفكري والثقافي والفني والإنساني أحد أبنائها، وأعني بذلك وزير الخارجية والتعاون المغربي السابق محمد بن عيسى. وفي كلمة لي أمام "ندوة الفكر العربي المعاصر والمسألة الدينية" التي أقيمت في أصيلة للفترة (21 إلى 23 يوليو) الماضي، قلت: "أتمنى لو أن كل وزير أو مسؤول عربي تبنى مدينة عربية صغيرة لتكون مركز إشعاع فكري وثقافي وفني.. لو تمّ ذلك فستشع مدن عربية كثيرة بالفكر والأدب والثقافة والوصل مع الآخر والإنسانية.مدن صغيرة مضيئة يجتمع من حولها مبدعون ومفكرون ومثقفون، وقبل هذا وذاك يجتمع حولها أهل المدينة من يقطنها ومن يأتي عانياً لزيارتها. وكم يحتاج المواطن العربي المُنهك برتم يومه الصعب باقتتال أبنائه المتوحش، إلى أن يحظى بشيء من سلام لروحه، أو فكر أو فن أو أدب يعيده إلى توازنٍ ينشده على عارضة اللحظة العالية".
"أصيلة" وهي تحتفل بموسمها الـ39 إنما تؤكد أن الحضور الإبداعي والثقافي والفني وحده هو القادر على جلب انتباه الآخر، وهو القادر على تقديم الوجه الأكثر إشراقا وسلاما وبقاء في ذاكرة الإنسان. محمد بن عيسى ومعه مجموعة عمل مخلصة ومتفانية في عملها، استطاع أن يضع مدينة "أصيلة" ليس على خريطة الساحة الفكرية والثقافية والفنية العربية فحسب، ولكنه استطاع عبر جهد جماعي منظم ومدروس، أن يجعل منها مزاراً للبشر، كل البشر. فحين يمشي الزائر في شوارع المدينة، تتناهى إلى مسامعه لغات ولهجات كثيرة، بما يوحي أن المدينة استقطبت الكثير الكثير من عشّاق التاريخ والثقافة والفنون، وجمعتهم حول نكهة الأصالة الأجمل."أصيلة"؛ حين كنت أمر بجانب حديقة الكاتب العربي الطيب صالح، في طريقي إلى قصر الثقافة، كان يستوقفني أثر بعد أثر. البحر، وعمارة المدينة المغربية التقليدية، وأصوات الباعة، وانشغال الناس بخاصهم، وأحجار الطريق.أتنقل من محل إلى آخر، وسط أزقتها الضيقة، يحضر بي شيء من ذاكرة غافية، شيء من لحظة تاريخ عربية ماضية، عبرت بي ربما قبل سنة، أو عقد، أو ربما عقود كثيرة، حينما قرأت في كتب التاريخ عن مدن عربية عاشت ازدهار وسقوط عظمة الأندلس الإسبانية."أصيلة" وبتخطيط محكم ومنظم وعصري من "مؤسسة منتدى أصيلة"، استطاعت أن تؤمّن لنفسها مكاناً ومكانة عاليتين بين مدن كثيرة مشعة ومنتشرة في بقاع المعمورة. مدن تستيقظ على الحياة، وعلى الخير والفكر والإبداع، بعيداً عن العنصرية والعنف والحرب والاقتتال.. ما أحوجنا إلى "أصيلات" كثيرة، مدن تشع بالسلام والخير والفكر والفن. فنحن الشعوب العربية، كُتب علينا أن نحيا بين الوجع والأمل، وليس من ثقل صغير يرجّح كفة الأمل إلا الفكر المستنير والإبداع والفن والأدب. فلقد أثبت التاريخ العربي المعاصر سقوط كل الشعارات وكل الأقنعة، ولم يبق إلا الإبداع الإنساني مائدة عامرة تجمع من حولها المفكرون والمبدعون والمثقفون العرب، وهذا وحده هو عزاؤهم الأكبر.