الذكرى التي لم نتعظ منها
أجزم من واقع معرفة ودراسة ومعايشة الغزو الصدامي الذي تمر علينا في هذه الأيام ذكراه السابعة والعشرون، أنه يعتبر بحق من ضمن أكبر الجرائم التي شهدتها البشرية في مختلف الأزمنة السحيقة والغابرة والوسطى والمعاصرة؛ فما حدث قد احتوى كل أصناف البشاعة والوحشية، ومما ضاعف اللوعة والأسف أن مرتكبها كانت تربطنا به علاقات طيبة، وسبق أن ساندناه في أحلك الظروف التي مر بها، ومع ذلك فقد فاجأنا بالفعل الشنيع الذي أقدم على ارتكابه.ومن واقع معايشتي الحياتية خلال فترة الغزو لاحظت وجود بعض الأمور الإيجابية التي طغت على مشاعر شعبنا ووجدانه، وعلى رأسها تعمق مفاهيم الوحدة الوطنية، فهي وإن كانت موجودة في الفترة التي سبقته، فإنها ازدادت قوة وأصالة أدهشت العالم أجمع، وقد كنا ومازلنا نشعر بالفخر والاعتزاز بوحدتنا الوطنية، فقد كنت أعتبرها من أعظم الإنجازات في تاريخ بلادنا، إلا أنه سرعان ما خاب ظني بعد التحرير لما ألمّ بنا؛ فما جرى بعد تحريرنا لم يكن متوقعاً على الإطلاق، إذ أصبحت المظاهر البغيضة تسود وتهيمن على مجتمعنا، وقد تؤدي لا سمح الله إلى تمزيقه لو استمر الحال على ما هو عليه، فهذه المظاهر المؤدية إلى انتشار كل مشاعر البغضاء والكراهية بين أبناء الوطن الواحد تنبع من تبني الأفكار المتطرفة، كالطائفية والقبلية والعنصرية وغيرها من الأفكار المماثلة التي لا تجلب سوى الشر للمجتمع، ما أدى إلى سيادتها وطغيانها على الانتماءات والأحاسيس الوطنية.لذلك كان لزاماً على الدولة منذ اللحظات الأولى للتحرير أن تبادر إلى اتخاذ جميع التدابير المطلوبة لمكافحة هذه الآفة والقضاء عليها، كما هو الحال في الدول الديمقراطية مثل إصدار قانون لتنظيم العمل السياسي يقضي بتحريم وتجريم إنشاء أي تنظيمات سياسية متطرفة تستند في وجودها وتوجهاتها إلى مفاهيم سيئة تؤدي إلى تدمير المجتمع وتمزيقه، والدعوة إلى تشجيع إنشاء تنظيمات سياسية ذات أفكار وتوجهات عاقلة مستنيرة تؤمن بالأفكار والمبادئ المستقرة في الأنظمة الديمقراطية كالرأي والرأي الآخر، والتداول السلمي للسلطة، وغيرها من المبادئ والأفكار التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية، والتي كانت ولاتزال، تمثل السبب الأساسي لازدهار ونماء الدول التي تبنت تلك الأنظمة.
لذلك كنت أتمنى أن يكون ذلك هو الهاجس والهم الأول والأخير للدولة منذ اللحظات الأولى للتحرير. وعدم تحقيقه حتى الآن هو الذي أسهم في وصولنا إلى الواقع المر الذي نعيشه حالياً والذي سيستمر ما لم تتخذ الخطوات الصحيحة لبناء العمل على أسس صحيحة وسليمة. وقد امتد الوضع إلى أمور أخرى آلمتنا كثيراً، فنحن، على سبيل المثال، لم نحذُ حذو الأمم المتحضرة التي تعرضت لظروف مشابهة، فلم نقم، على سبيل المثال، بإطلاق أسماء شهدائنا على شوارعنا أو مرافقنا أو أسماء شخصيات دولية أسهمت إسهاماً فاعلاً في تحرير بلادنا، وقد تسبب هذا التجاهل ونكران الجميل في استياء الكثير من الأفراد، بل لا أتردد في القول بأنني أشعر بالخجل أمام عائلات الشهداء ومواطني الدول الأخرى جراء نكراننا لأفضالهم علينا، وهذا أمر بالفعل لا يليق بنا.وبمناسبة الامتنان لأفضال الآخرين وتكريمهم، أذكر أني التقيت منذ سنوات بمواطن من كوسوفو، ذكر لي أنهم أطلقوا اسم الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون على أهم وأكبر شوارعهم، وما فعلته كوسوفو تفعله الأمم المتحضرة في تعاملها مع تاريخها وتراثها. ومثل هذا السلوك هو الذي كان علينا اتباعه لتقدير أفضال الآخرين علينا بدلاً من إطلاق اسماء مختلفة على الشوارع، والتي كانت ومازالت مصدر استهجان وسخرية للجميع.وختاماً أود أن أقول إن الأمثلة المذكورة لا تمثل سوى القليل من أمور كثيرة فاتت علينا ولم نتعلمها من الغزو، وأرجو أن تتاح لنا جميعا السبل والوسائل السليمة التي تمكننا من إحياء تلك الذكرى مثل الدول التي تهتم بإحياء أيامها الوطنية الحلوة والمرة على حد سواء.