صدِّق أو لا تصدِّق، مضى على الغزو الآثم 27 عاماً بالتمام والكمال. يعني مواليد الغزو أصبح عمرهم الآن 27 سنة، فكل عام وأنت بخير.

فأين كنا؟ وأين أصبحنا؟

Ad

من المفترض أن نكون تعلمنا "الدرس"، فهل تعلمناه؟

كيف كنا قبل الغزو؟ وكيف أصبحنا بعده؟ أحسن، أم أسوأ، أم لم يتغير شيء فينا؟

هل أصبحنا أكثر اطمئناناً وإحساساً بالأمن والأمان؟ كل المؤشرات والدراسات تشير إلى أننا لا نزال، وبعد مُضي 27 عاماً، أكثر قلقاً وترقباً، وفي الوقت ذاته أكثر استهتاراً بمقدَّرات البلاد والعباد وأمنها. بل كأننا نرفض، عن عمد، أن نتعلم، فحتى التقرير الخاص بـ"لجنة التقصي"، الذي تم بمجلس 1992 لايزال غير مُفصح عنه رسمياً، مع أنه من المفترض أن تدرسه الأجيال، لا لتتهم أحداً، لكن لتتعلم وتتجنب الكوارث المقبلة. بل إن الحكومة حينها خاضت معركة سياسية، لكي تصبح اللجنة "تقصي" وليس "تحقيق"، وكان في ذلك دلالة كافية على طمس المعالم والأدلة.

لا أحب ذكرى الغزو، ولا أحب تذكُّره، وأرى فيه فرصة لتعلُّم الدروس، وخاصة أنني خضت غماره على الأرض، لا في الفضاء، وقمت بما يُمليه عليَّ واجبي تجاه وطني، بلا منَّة ولا مزايدة، حتى تمَّ أسري. لا أحب تذكُّره، لأننا فقدنا فيه عدداً من خِيرة رجال ونساء الكويت، أمثال: فيصل الصانع ويوسف المشاري وأسرار القبندي ومبارك النوت وسميرة معرفي وعبدالوهاب المزين وعادل الرقم... وغيرهم كثير، لا يمكن تعويضهم.

عندما زرت المعتقل الذي كنا فيه بشمال البصرة، بعد سقوط النظام في 2003، أدركت حينها كم كنا قريبين من الموت، لكنها إرادة الله. اقتربتُ من موقعي، حيث كنا ثمانية نتشارك بطانية واحدة، تردَّدت على مسامعي حينها أصوات أكثر من 400 أسير محشورين هناك من كل الفئات، دون استثناء، بمن فيهم البدون.

كنا مجتمعاً كويتياً، بكل فئاته، قام الغزاة بتجميعه، ليشكِّل صورة على أرض الواقع قائمة. لكن عندما أُطلق سراحنا، وتم نثرنا في الصحراء على الحدود، لم تسمح لنا دولتنا بمزيد من التفاؤل، حيث جاءت متأخرة بحافلاتها، بعد أن قضينا ليلة طويلة في البرد القارس، وتم صفنا طابوراً طويلاً للتفتيش، وعبثاً حاولنا مع المسؤول الأمني أن يُركب الأسرى المرهقين والمرضى الحافلات، ثم يتم التدقيق وهم جلوس، وحدثت جرَّاء ذلك مشادات مؤسفة. اعترضت مجموعة على ذلك الفعل، وقررت المسير، ووصلنا بلادنا الحرة وسط دخان أسود يتعالى من آبار النفط المشتعلة، لم يبددها إلا دموع عصية تنطلق شوقاً لتراب الوطن والعودة للأهل والأبناء والأصدقاء.

كان ذلك هو الدرس الأول بعد التحرير. يُحدثني أحد رفاق الأسر ونحن نسير على الأقدام في طريقنا لبلادنا المحررة: "كنت أتوقع أن يتم لقاؤنا واستقبالنا بالترحاب، لا بهذه الطريقة"، فكان ردي: "لا تجزع، فلعله مجرَّد تصرُّف فردي، ومن المتوقع أن الناس قد تعلَّمت الدرس، وأمامنا طريق صعب لبناء البلد".

كنا عازمين على بناء مجتمع نستفيد منه دروساً، تؤسس لحالة تماسك اجتماعي، وعدالة ضاربة في الجذور، وعمل مشترك في مواجهة الحقيقة، لا الخيال. فهل حققنا ذلك؟ أو ربعه، أو ثُمنه؟ لدرجة أنني صرت أتساءل: هل كان هناك غزو أصلاً؟ هل هناك دليل عليه أم أننا نتخيله؟ لا أدري.