ماذا تفعل إذا اجتاح مدينتك توتاليتاريون قتلة؟ يحاول معظم الناس الاختباء، إلا أن قليلين سيتحلّون بشجاعة كافية ليخاطروا بحياتهم في سبيل إخبار العالم بما يحدث. في الفيلم الوثائقي الجديد المذهل City of Ghosts، يتتبّع ماثيو هاينمان مجموعة من تلك الأرواح الشجاعة.

يعمل أعضاء «الرقة تُذبح بصمت» مواطنين صحافيين، مسجّلين الفظائع التي يرتكبها تنظيم «داعش» في مدينتهم لينشروها على مواقع التواصل الاجتماعي.

Ad

لا تبدأ أحداث الفيلم في الرقة بل في نيويورك، حيث فازت مجموعة «الرقة تُذبح بصمت» بجائزة حرية الصحافة الدولية 2015. كانت أضواء الكاميرات تومض، والصحافيون الأنيقون يدلون بكلمات صغيرة. ولكن عندما بدأ عزيز، المتحدث باسم المجموعة، بخطابه، أعاد الكاميرا إلى سورية، وتحوَّل التصفيق إلى أصوات مدافع: نرى الرقة في ذروة سيطرة «داعش»، بما أنها عاصمة الخلافة المزعومة.

خلف الحدود

بينما راح التنظيم يعزّز قبضته على المدينة، ازداد إخراج المعلومات منها صعوبة. وبعدما اعتُقل أحد أعضاء المجموعة مع مواد خاصة بـ«الرقة تُذبح بصمت» وأُعدم علانية، عبروا الحدود التركية إلى غازي عنتاب. لكن هذه الخطوة ذكّرتهم بأن «داعش» سيطاردهم أينما كانوا، فقد قُتل ناجي، مرشد المجموعة، بالرصاص في الشارع في وضح النهار. لذلك هربوا مجدداً إلى ألمانيا.

لا تخوض «الرقة تُذبح بصمت» حرباً عادية، بل تشكّل جزءاً من حرب إعلامية. سمعنا الكثير عن ماكينة «داعش» الدعائية وقدرتها على تحويل رجال يائسين إلى شهداء. لكن City of Ghosts يكشف لنا كم أصبحت هذه الماكينة متقنة، فما عدنا نرى مقتطفات غير واضحة عن رجل في منتصف العمر يعظ، إذ حلّت محلّها أفلام تصوّر تفجيرات بالحركة البطيئة، وعمليات إطلاق نار سريعة، وسيارات تنطلق بجنون. تخال أن هذه الأفلام أُعدت في استوديوهات هوليوود، حتى إن بعض لقطاتها يلائم أفلام جيمس بوند. وهنا يكمن أساس جاذبية «داعش»، حسبما يوضح أحد الصحافيين: «لمَ تُعد هذه المشاهد على جهاز كمبيوتر بينما تستطيع تصويرها في الواقع؟».

مخاطر المهمة

يتفادى هاينمان الوقوع في فخ التركيز على «داعش» بدل الصحافيين أنفسهم. وتهدف صور وحشية المجاهدين (صبية لا يتجاوز عمرهم 12 سنة يطلقون النار على رؤوس الرجال مباشرةً ورؤوس الخصوم معلقة على سياج في الساحة الرئيسة) إلى تسليط الضوء على المخاطر التي تعرّض لها أعضاء «الرقة تُذبح بصمت» بسبب المهمة التي أتخذوها هم على عاتقهم. رغم ذلك، نرى الصحافيين عادةً من دون أية إثارة: يجلسون أمام أجهزة الكمبيوتر المحمولة، يتحادثون في المقاهي، أو يحاولون معالجة ضعف إرسال الهواتف المثير للاستياء في الرقة. وهكذا، لا يركّز الفيلم على وحشية المقاتلين التي لا نهاية لها، بل على إنجازات الصحافيين اليومية رغم صغرها. على سبيل المثال، لا يتحدّث أحد المراسلين عن احتمال تعرّضه للقتل، بل يصبّ اهتمامه بدلاً من ذلك على انتصاراته الشخصية ضد «داعش».

يموّه هذا المراسل مجلة «الرقة تُذبح بصمت» المناهضة للمجاهدين لتبدو كما لو أنها كتيبات لداعش. يقول: «أثار هذا جنونهم».

علاوة على ذلك، نحظى بلمحة عن كثب عن حياة المجموعة الشخصية تذكرنا بأنهم رجال ونساء عاديون يخاطرون بالكثير. في أحد المشاهد في ألمانيا، يظهر محمد، مدرّس رياضيات ومراسل لـ«الرقة تُذبح بصمت»، يلعب مع زوجته بمرح على متن قطار ويلتقطان صوراً لأنفسهما في سوق لعيد الميلاد.

مرّ معظم أعضاء المجموعة بمشقة لا توصف. على سبيل المثال، يختلي حمود، مصور المجموعة، بنفسه ليشاهد شريط فيديو عن إعدام والده. يقول وهو يحدِّق من دون أية تعابير في الشاشة: «صار الموت أمراً شائعاً في حياتي».

لا نهاية سعيدة

مع أن تنظيم «داعش» يخسر مناطقه واقترب من الزوال، يبدو City of Ghosts قاتماً. لا يشكّل الانتقال إلى ألمانيا نهاية سعيدة، مع أنه لا يخلو من لحظات مميزة مع لمّ شمل الأصدقاء وولادة ابن حمود. يتضح للمشاهد أن الاضطهاد لم ينتهِ بعد. ففي مسيرة وطنية في برلين (شارك أعضاء «الرقة تُذبح بصمت» في مسيرة مضادة)، علت صيحات «رحلوهم» بين الحشود. كذلك حمل أحد المتظاهرين علبة هاتف كتب عليها العبارة FCK REFUGEES (اللعنة على اللاجئين). ثم خاطب متحدث ماهر الحشود وأعلن أن «هؤلاء الخنازير سيتعلّمون كيف يهربون» ليحظى بتصفيق حاد. كذلك راحت مجموعة من حليقي الرؤوس ترمي بالشتائم في وجه أعضاء «الرقة تُذبح بصمت». فشكّل هؤلاء بملابسهم السوداء مذكِّراً غريباً بالمجاهدين الذين ناضل المواطنون الصحافيون بجهد للهرب منهم.