ما قــل ودل: وحدة بين مختلف القوميات واللغات... وانقسام وحروب بيننا وقد وحدنا الدين والقومية واللغة
تأملت الوحدة التي حققتها دول أوروبا، رغم اختلافها في القوميات واللغة والثقافة، وتأملت حالنا وما آلت إليه أوضاعنا المأسوية، والتمزق والتشرد بين أقطارنا العربية، ذات القومية واللغة والثقافة والعادات الواحدة، وقد أصبح دم الشهداء يسيل الآن على أرضها كل يوم في أكثر من بقعة، بينما فتحت أغلب دول أوروبا أبوابها للنازحين من ويلات الحروب التي تشتعل في عالمنا العربي وويلات الإرهاب الذي يمزقها.
![المستشار شفيق إمام](https://www.aljarida.com/uploads/authors/67_1682522878.jpg)
وفى إقامتي القصيرة في كل بلد من هذه البلاد، رأيت الأعراق والأجناس والأديان كلها من شعوب يختلف بعضها عن بعض في اللغة والعادات والتقاليد، ولكنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من نسيج واحد مع شعوب أوروبا الأصيلة، فالمجتمعات الأوروبية فتحت صدورها وقلوبها، بعد الحرب العالمية الثانية لأبناء الشعوب الأخرى الإفريقية والآسيوية، لتبني معها ما خلفته هذه الحرب من خراب ودمار، ومن نقص في الأيدي العاملة. رأيت في هذه البلاد الهندي والإندونيسي والماليزي والتايلندي والتركي والصيني والياباني والسوري واللبناني والتونسي وغيرهم، ومطاعمهم المأهولة باليوغوسلاف والألمان والنمساويين والتشيك والمجريين، يقبلون على الوجبات الشرقية والآسيوية بشغف شديد ويتذوقونها وقد أعدتها هذه الأيدي الآسيوية والشرقية، وتذكرت في هذا السياق مهدي (النقاش) الذى كان يعمل في بيتي ورفض أن يأكل وجبة قدمتها إليه الخادمة الفلبينية، لأنه يأنف أن يأكل من طعام أعده غير المسلمين، هذا ما لقنه إياه في القرية خطيب المسجد وزرعه في وجدانه وعقيدته، ولم تفلح أي مناقشة معه في أن يغير من ثقافة تربى عليها هو وأمثاله.وفي فندق ديفين (Devin) في براتسلافا، حيث كنت أقيم، وهو فندق جميل يطل على نهر الدانوب، رأيت خلفه وبجواره أغلب السفارات، فهو حي السفارات، ولكنه مأهول في الوقت ذاته بالمطاعم التي يؤمها كل الأجناس ويرتادها الجميع، وليس على أبوب هذه السفارات، ومنها سفارات مصر والكويت وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، جندي واحد، عدا سفارة الولايات المتحدة التي كانت تحيط بها أسلاك رقيقة تحول بين المارة وجدرانها، وسياراتان للشرطة تقفان بمحاذاتها، فقد كانت سفارتها هي الاستثناء الوحيد، بحكم ما تشعر به أميركا من كراهية العالم كله لها.إنها شعوب تجبرك على احترامها وتشدك إلى زيارتها وإلى تكرار هذه الزيارة لفندق ديفين، حيث استقبلنا مديره الرائع توماس بترحيب شديد أنا وأولادي وأحفادي، والذين أصطحبهم معي في رحلتي السنوية كل عام، وأحسن ضيافتنا وإقامتنا وتقديم كل الخدمات والتسهيلات لنا، وأصدر أوامره للمطعم بإعداد وجبات إسلامية لنا، وكان يضع على الوجبات الأخرى لافتة صغيرة بأنها لحم خنزير، وكان في الفندق spa رائع، بالرغم من أنه 4 نجوم، حمام سباحة وجاكوزى ساخن وساونا وبخار ونادٍ صحي، فضلاً عن حجراته الواسعة وشرفاته الجميلة التي تطل على نهر الدانوب.تأملت هذه الوحدة الأوروبية والنهضة التي حققتها، رغم اختلافها في القوميات وفي اللغة وفي الثقافة، وتأملت حالنا وما آلت إليه أوضاعنا المأسوية، والتمزق والتشرد بين أقطارنا العربية، ذات القومية الواحدة واللغة الواحدة والثقافة المشتركة والعادات والتقاليد الواحدة، وقد أصبح دم الشهداء يسيل الآن على أرضها كل يوم في أكثر من بقعة من بقاعها في سورية والعراق واليمن ومصر وليبيا وغيرها، وحروب تستنزف ما بقي من ثروات هذه البلاد، بل دمرت تماماً البنية التحتية لبعضها، بينما فتحت أغلب دول أوروبا أبوابها لهؤلاء النازحين من ويلات الحروب التي تشتعل في عالمنا العربي وويلات الإرهاب الذي يمزقها.تأملت كل هذا ودعوت الله أن يعيد هذه الأمة إلى رشدها، لتتدبر أمورها وتدرك الأخطار التي تحيط بها والمؤامرات التي تحاك ضدها، وتتوحد بدلاً من الانقسام الذي تزداد حدته في كل يوم، والذي انتقلت عدواه من الوطن العربي إلى الخليج العربي الذي كان يحاول التماسك. يقول سبحانه وتعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ".
المجتمعات الأوروبية فتحت قلوبها لأبناء إفريقيا وآسيا ليبنوا معها ما خلفته الحرب العالمية من خراب ودمار ونقص في الأيدي العاملة
بعد أكثر من مليوني قتيل أوروبي راحوا في الحرب العالمية الثانية آمنت أوروبا بأن الوحدة هي سبيلها إلى التقدم والرقي والتنمية
بعد أكثر من مليوني قتيل أوروبي راحوا في الحرب العالمية الثانية آمنت أوروبا بأن الوحدة هي سبيلها إلى التقدم والرقي والتنمية