في رحلتي إلى ألمانيا وأربع من دول أوروبا الشرقية للاستشفاء والعلاج طوال الشهر المنصرم، والتي لم تمنعني من رحلة القلم على صفحات صاحبة الجلالة، وهو لقب تستحقه بجدارة وبحق صحيفة "الجريدة" التي تميزت خلال العشر سنوات الأولى من عمرها بالجدة والصدق والأمانة والموضوعية والرأي والرأي الآخر، لتكون في مقدمة الصحف المحلية والإقليمية... أحسست في هذه الرحلة بعظمة الشعوب الأوروبية، التي تتعايش فيما بينها دون حدود تفصل أراضيها؛ فقد تنقلت بالسيارة من ميونيخ إلى كارلو ديفاري ومن براغ عاصمة التشيك إلى براتسلافا عاصمة سلوفاكيا، ومن الأخيرة إلى فيينا عاصمة النمسا، ومن براتسلافا مرة أخرى إلى بودابست عاصمة المجر، دون أن أرى جندياً واحداً على حدود هذه الدول – فيما بينها – يتحقق من جوز سفرك وشخصيتك والتأشيرة التي حصلت عليها من إحداها، فهم يثقون بعضهم في بعض، وقد اطلع عليها ضابط جوازات أول دولة أوروبية دخلت منها إلى الاتحاد الأوروبي، وهم لا يفتشون الشخص وأمتعته إلا عند دخوله الاتحاد، ولا رسوم جمركية على ما تحمله من ملابس أو أشياء قد تكون ثمينة مثل الأجهزة الكهربائية أو غيرها، عند عبورك حدود هذه الدول أو عند خروجك من الاتحاد الأوروبي، فالمنظومة الاقتصادية بين هذه الدول فضلاً عن اتفاقية الجات تحول دون فرض هذه الرسوم، وذلك لمزيد من المنافسة الحرة داخل الأسواق الأوروبية وبين منتجاتها، مع التكامل الاقتصادي بين هذه الأسواق، حيث كانت اللبنة الأولى في هذا الاتحاد هي السوق الأوروبية المشتركة.لقد قامت حروب بين هذه الدول، كانت تشتعل قبل أن يخمد أوارها من حين إلى آخر، ولكنها بعد حروب طويلة راح فيها أكثر من مليوني قتيل في الحرب العالمية الثانية، آمنت بأن الوحدة الأوروبية هي سبيلها إلى التقدم والرقي والتنمية، واستطاعت أن تخلق نموذجاً جديداً لهذه الوحدة، بعيداً عن الأشكال التقليدية لها والتي تراوحت بين الاندماج والاتحاد الفدرالي والاتحاد الكونفدرالي، نموذجاً يلائم ويناسب ظروف كل هذه الدول وأمزجة شعوبها، خرج من رحم السوق الأوروبية المشتركة مع احتفاظ كل دولة داخل منظومة الاتحاد الأوروبي بسيادتها على أراضيها وباستقلالها السياسي وتمثيلها الخارجي، ومع اختلافات في الرؤى السياسية في مواجهة المشاكل والأزمات العالمية، في ظل ثوابت تجمعها، أهمها الدفاع عن حقوق الإنسان والانحياز إلى التحول الديمقراطي.
تأملت عظمة أوروبا التي لا تزال تقف صامدة أمام الأخطبوط الأميركي، لاسيما في حقبة رئاسة ترامب للولايات المتحدة، ولا يزال وقوفها في مواجهة القرارات التي أصدرها بمنع دخول الولايات المتحدة الأميركية لرعايا سبع دول إسلامية، وهي القرارات التي أوقفها القضاء الأميركي أيضاً وعارضتها مؤسسات رسمية أميركية وأطياف كثيرة من الشعب الأميركي، لا يزال هذا الموقف ماثلاً أمامنا.وفى إقامتي القصيرة في كل بلد من هذه البلاد، رأيت الأعراق والأجناس والأديان كلها من شعوب يختلف بعضها عن بعض في اللغة والعادات والتقاليد، ولكنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من نسيج واحد مع شعوب أوروبا الأصيلة، فالمجتمعات الأوروبية فتحت صدورها وقلوبها، بعد الحرب العالمية الثانية لأبناء الشعوب الأخرى الإفريقية والآسيوية، لتبني معها ما خلفته هذه الحرب من خراب ودمار، ومن نقص في الأيدي العاملة.رأيت في هذه البلاد الهندي والإندونيسي والماليزي والتايلندي والتركي والصيني والياباني والسوري واللبناني والتونسي وغيرهم، ومطاعمهم المأهولة باليوغوسلاف والألمان والنمساويين والتشيك والمجريين، يقبلون على الوجبات الشرقية والآسيوية بشغف شديد ويتذوقونها وقد أعدتها هذه الأيدي الآسيوية والشرقية، وتذكرت في هذا السياق مهدي (النقاش) الذى كان يعمل في بيتي ورفض أن يأكل وجبة قدمتها إليه الخادمة الفلبينية، لأنه يأنف أن يأكل من طعام أعده غير المسلمين، هذا ما لقنه إياه في القرية خطيب المسجد وزرعه في وجدانه وعقيدته، ولم تفلح أي مناقشة معه في أن يغير من ثقافة تربى عليها هو وأمثاله.وفي فندق ديفين (Devin) في براتسلافا، حيث كنت أقيم، وهو فندق جميل يطل على نهر الدانوب، رأيت خلفه وبجواره أغلب السفارات، فهو حي السفارات، ولكنه مأهول في الوقت ذاته بالمطاعم التي يؤمها كل الأجناس ويرتادها الجميع، وليس على أبوب هذه السفارات، ومنها سفارات مصر والكويت وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، جندي واحد، عدا سفارة الولايات المتحدة التي كانت تحيط بها أسلاك رقيقة تحول بين المارة وجدرانها، وسياراتان للشرطة تقفان بمحاذاتها، فقد كانت سفارتها هي الاستثناء الوحيد، بحكم ما تشعر به أميركا من كراهية العالم كله لها.إنها شعوب تجبرك على احترامها وتشدك إلى زيارتها وإلى تكرار هذه الزيارة لفندق ديفين، حيث استقبلنا مديره الرائع توماس بترحيب شديد أنا وأولادي وأحفادي، والذين أصطحبهم معي في رحلتي السنوية كل عام، وأحسن ضيافتنا وإقامتنا وتقديم كل الخدمات والتسهيلات لنا، وأصدر أوامره للمطعم بإعداد وجبات إسلامية لنا، وكان يضع على الوجبات الأخرى لافتة صغيرة بأنها لحم خنزير، وكان في الفندق spa رائع، بالرغم من أنه 4 نجوم، حمام سباحة وجاكوزى ساخن وساونا وبخار ونادٍ صحي، فضلاً عن حجراته الواسعة وشرفاته الجميلة التي تطل على نهر الدانوب.تأملت هذه الوحدة الأوروبية والنهضة التي حققتها، رغم اختلافها في القوميات وفي اللغة وفي الثقافة، وتأملت حالنا وما آلت إليه أوضاعنا المأسوية، والتمزق والتشرد بين أقطارنا العربية، ذات القومية الواحدة واللغة الواحدة والثقافة المشتركة والعادات والتقاليد الواحدة، وقد أصبح دم الشهداء يسيل الآن على أرضها كل يوم في أكثر من بقعة من بقاعها في سورية والعراق واليمن ومصر وليبيا وغيرها، وحروب تستنزف ما بقي من ثروات هذه البلاد، بل دمرت تماماً البنية التحتية لبعضها، بينما فتحت أغلب دول أوروبا أبوابها لهؤلاء النازحين من ويلات الحروب التي تشتعل في عالمنا العربي وويلات الإرهاب الذي يمزقها.تأملت كل هذا ودعوت الله أن يعيد هذه الأمة إلى رشدها، لتتدبر أمورها وتدرك الأخطار التي تحيط بها والمؤامرات التي تحاك ضدها، وتتوحد بدلاً من الانقسام الذي تزداد حدته في كل يوم، والذي انتقلت عدواه من الوطن العربي إلى الخليج العربي الذي كان يحاول التماسك. يقول سبحانه وتعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ".
مقالات
ما قــل ودل: وحدة بين مختلف القوميات واللغات... وانقسام وحروب بيننا وقد وحدنا الدين والقومية واللغة
06-08-2017