لم أقم بأي رحلة بحرية في شهر مايو الماضي لكن بعد 20 ساعة من الطيران، يسهل أن أعتبر جناحي في فندق «نيلي» من بين «أغلى الأماكن الهادئة» (بحسب كلام كريستي) على مرّ سفراتي الطويلة.

يقع الفندق بين أشجار قديمة وتعجّ المروج فيه بنباتات مزهرة، وثمة طاولات شاي ومقاعد مستطيلة ونوافير وحوضا سباحة خارجيان وساخنان. بدورها، تضيف منحوتات الفهود والأسود البرونزية الضخمة للفنان الجنوبي الإفريقي المعاصر ديلان لويس طابعاً غريباً على الجو الفخم والمميز. يظهر «جبل الطاولة» الأسطوري في خلفية المكان ويقبع تمثال اللورد نيلسون الذي سُمّي الفندق تيمناً به في الردهة الفخمة.

Ad

كان فندق «ماونت نيلسون» لا يزال حديثاً حين فتح أبوابه في 6 مارس 1899، وكان أول فندق فيه مياه جارية ساخنة وباردة في جنوب إفريقيا! لا يزال المكان فريداً من نوعه، فقد اجتهدت شركة «بيلموند» لتحافظ على تميّزه.

تدعو الواجهة الزهرية الناعمة الضيوف إلى أحد تلك المزارات الأسطورية التي تعيدهم إلى الماضي وتتماشى في الوقت نفسه مع أذواق المسافرين وتوقعاتهم المعاصرة: التاريخ مكتوب حرفياً على جدران الممرات العريضة وسط الصور واللوحات والتذكارات الموضوعة في أطر متعددة. في جناحي الذي جرى تحديثه أخيراً، رحّبت بي السقوف العالية والجدران المزودة بقوالب معقدة وقادتني إلى البهو والغرفة المتصلة به. تشكّل الأرضيات المصنوعة من خشب السنديان إطاراً للسجاد المصنوع محلياً في غرفة المعيشة ومدفأتها، وتطلّ غرفة النوم الكبيرة التي تشمل النوافذ والحمّام الرئيس على «جبل الطاولة».

إلى جانب جناحي الفخم، أعتبر الشرفة التي شربتُ فيها الشاي من الأماكن المفضلة لدي. يذكّرنا هذا الموقع بفندق «رافلز» في سنغافورة أو فندق «تاج» في مومباي، إذ يعجّ المكان بالروطان والكتان الأبيض.

يشكِّل شرب الشاي في فندق «بيلموند ماونت نيلسون» تجربة أساسية عند زيارة «كيب تاون»، وينطبق الأمر نفسه على وجبة ما بين الفطور والغداء يوم الأحد. يرتشف عشرات الضيوف الشاي على وقع موسيقى عازف بيانو.

تماشياً مع نوعية التصاميم الفنية في الغرف، يمكن أن يختار العملاء في متجر «سيغناتور بوتيك» أفضل أنواع الحرف اليدوية المصنوعة محلياً والمعروضة للبيع. على مسافة قصيرة من الفندق، يقع شارع «كلوف» الفخم ويشمل متاجر ومطاعم معاصرة ومتحف «مايل» والواجهة البحرية «فيكتوريا أند ألفريد» التي تضمّ متاجر تذكارات تنتظر من يستكشفها.

أخيراً، لا ننسى فندق «نيلي» الجميل ومدخله الأبيض اللامع الذي يتألف من أعمدة متعددة ويرحّب دوماً بالعائدين إليه.

«القطار الأزرق»

عندما خرجتُ من ذلك المدخل، شعرتُ بأنني أخون فندق «نيلي» لأنني كنت أستعد للتوجه إلى مكان أسطوري آخر: «القطار الأزرق» الذي سيشكّل أول تجربة فخمة لي في القطارات. إنه واحد من 25 قطاراً مماثلاً حول العالم، واكتسب صفته الأسطورية في جنوب إفريقيا حيث يتنقل على مسارات تمرّ مباشرةً بالتقاطع الواقع بين «كيب تاون» و«بريتوريا».

حين وصلتُ إلى غرفة الانتظار الخاصة في محطة القطار المركزية في «كيب تاون» في السابعة والنصف من صباح يوم الأربعاء، اختلطتُ مع أكثر من 50 ضيفاً آخر وقُدمت لي أكواب شاي مع البسكويت قبل الانطلاق في رحلة تمتد على 900 ميل وتدوم لثلاثين ساعة.

حين طُلِب من الجميع أن يصعدوا إلى القطار، رافقني كبير الخدم الشاب أليكس إلى حجرتي. وعندما فُتح الباب، شاهدتُ تصاميم احترافية وحرفاً يدوية مدهشة: خشب خام وصلب مع ألواح بطبقات خارجية، وأنماط خشبية متشابكة، وأرضيات حمّام ووسائل راحة داخل رخام إيطالي ملكي نادر وتجهيزات مطليّة بذهب بعيار 24 قيراطاً، وكتّان أبيض مجعد للأسرّة المريحة وكرسيان مستطيلان ومغطّيان بأقمشة زرقاء وذهبية. حتى الجهات الداخلية للأدراج كانت مزوّدة بحرير مبطّن.

حين مشيتُ على طول العربات السبع عشرة في القطار، فيها 11 حجرة للضيوف، أخذتني أفكاري مجدداً إلى أغاثا كريستي. ربما تقع جريمة خلال هذه الرحلة وأتمكّن من حلّها. ما كانت كريستي لتُسرّ بذلك حتماً! لم تقع حوادث درامية أثناء الرحلة لكنها ذكّرتني بالرحلات الشهيرة الماضية (القطار الأزرق «حفيد» أول قطار بُني بعد الحرب العالمية الثانية، ونقل العائلة البريطانية المالكة في عام 1947)، وبأشهر الضيوف في التاريخ الحديث من أمثال نيسلون مانديلا.

تطلّ الجدران الزجاجية في عربة المراقبة على مشهد بانورامي يعكس المناظر الطبيعية الإفريقية المتنوعة. لكن كانت العربة التي تشمل الحانة الأكثر شعبية طبعاً وشاهدتُ فيها أستراليين وبريطانيين وأميركيين وجنوب إفريقيين فضلآ عن حاملي جنسيات أخرى استفادوا بأفضل طريقة من المشروبات والوجبات المتاحة.

في فترة بعد الظهر تقدّم عربة مجهّزة مجموعة من الساندويتشات مع الشاي وكعكاً مع كريما ومعجنات على صوانٍ فضية، ولا ننسى شاي رويبوس الذي تشتهر به منطقة جنوب إفريقيا.

يُقدَّم العشاء الرسمي مع وجبتَي الغداء في عربة الطعام الفخمة. نشطت مخيّلتي مجدداً فيما كنت أتجه إلى طاولتي المرتّبة بدقة وعليها بلورات لامعة. كانت خبرة رئيس الطهاة والتصميم الداخلي الجميل كافيَين لإضفاء جو ساحر وضمان تجربة لا تُنسى.

«بريتوريا»

توقف «القطار الأزرق» طوال 45 دقيقة قبل أن نصل إلى «بريتوريا»: أسس مستوطنة «ماتجيسفونتين» في عام 1884 العامل الاسكتلندي في سكة الحديد جيمس دوغلاس لوغان وتقع في مقاطعة «كارو» في غرب محافظة «كيب» في جنوب إفريقيا. ذكّرني هذا المكان الصغير برؤية هوليوود للبلدات من العصر الفكتوري.

رحّب بنا عازف بوق يتنقل في حافلة قديمة خلال جولة مدتها خمس دقائق، وتسنّى لنا أن نغني سوياً. كان يمكن أن نلقي نظرة على متحف أو متجر حِرَف يدوية أو نتناول مشروباً آخر في الحانة إذا كان الوقت كافياً. كانت تلك التجربة سريالية فعلاً لكنها جزء بسيط من رحلة السنة الماضية.

تابع «القطار الأزرق» سيره نحو «بريتوريا». تبيّن أن قصة هذه المنطقة ليست غامضة بقدر ما كنا نظن بل إنها تعكس رواية رومانسية نظراً إلى عدد الأزواج الذين كانوا يمضون شهر العسل خلال تلك الرحلة المؤثرة.