إن اهتمام الكاتب برسم معاناة البحارة وعذاباتهم الجسدية وتكريس حياتهم كاملة للقليل القليل من مكاسب الدنيا وهباتها لم يأتِ على سبيل الوصف المجاني، بقدر ما أتى مفعماً بالحنو ونفاذ الرؤية والعناية بالبُعد الإنساني لتجربة من هذا النوع مفعمة بحس الصراع والتحدي. ولعل الصراع في مساحة مكانية وزمانية، كسطح فتح الخير ورحلته، لم يكن أسطورياً مهولاً بمفهوم القص الخرافي، لكنه بلا شك كان صراعاً مؤثراً وبليغاً بمفهومه الإنساني البسيط.
إن وقوف البحار بجسده المعروق المرتجف أمام العاصفة، أو إزاء كفاف المأكل وخشونة العيش، أو في مواجهة بحر خئون لا يعطي إلا أقل القليل، ثم إصراره على هذا الوقوف والصمود والمواصلة رغم المردود الضئيل الأشبه بقبض الريح، هو بلا شك الأمر الأكثر جذباً وتأثيراً في نفس الكاتب. وإذ يعاين الكاتب ألن فيليرز تجربة التحدي هذه، فإنه يرى في شخوصها أبطالاً يستحقون الإشادة، سواءً من تميز منهم بالحزم وقوة الشكيمة والثقة بالنفس كنجدي نوخذة المركب وربانها، أو من اتصف بالانكفاء على الذات والعمل الصامت الدؤوب كحمد بن سالم مساعده، أو من تحلى بالطاعة والصبر الجميل واحتمال رثاثة العيش وبؤسه كيوسف البحار المبتلى بالفقر والديون، أو غيرهم وغيرهم من البحارة البسطاء المفعمين بالجسارة والقناعة ورقة الحال.ورغم أن كل شخصية من شخصيات فتح الخير احتفظت بسماتها الفارقة، وكان لها موقعها الخاص وحضورها في نفس الكاتب، فإن ذلك لم يمنعه من رؤية تلك الشخصيات جميعاً، في إطار من البطولة الجماعية. فجاء وصفه للحياة على متن فتح الخير كلوحة كلية متناغمة ومتناسقة، تنتظم فيها جزئيات الأحداث والأفعال والمشاهد، جنباً إلى جنب مع الأبطال الذين يحركونها ويصبون فيها نسغ الحياة.رغم ذلك الزخم الحياتي الموار الذي انشغل الكاتب برصده عن البحارة العرب وحياتهم ومجتمعهم، لكن كان لحضوره هو كشخصية فاعلة ومنفعلة في مكان الحدث وزمانه نصيب وافر أيضاً. فهو في معرض الحديث عن الآخر لم يهمل ذكر معاناته الشخصية ومسراته الصغيرة وجَلَده ومكابداته وصبره على أمراض مفزعة كالعرج لمدة ثلاثة أشهر والعمى لمدة شهر، فضلا عن رضاه بالكفاف في المأكل والملبس والراحة. لقد كانت هذه الحياة الشاقة بالنسبة له شرطاً أساسياً لمعرفة الآخر والعيش في ذات أجوائه وطقوسه والاندغام في وهج تجربته الحياتية العارية. وكلما ارتفعت درجة صدق التجربة استطاعت أن تعيد صياغة صاحبها وتهبه رؤية أكثر عمقاً وحساً أكثر، تقديراً لحيوات غيره من البشر، وإن اختلفوا عنه في الجنس أو اللون أو الثقافة. يقول ألن فيليرز في مقام اكتمال تجربته ووداعه الأخير للكويت ومشاهدها وإنسانها أواخر عام 1939: "وهكذا غادرت الكويت عن طريق البر إلى البصرة فأوروبا، وكنت حزيناً وأنا أترك المدينة وراء ظهري. لقد كان للبلاد حظها من المشكلات إلا أنها كانت أقل من غيرها من البلدان المشابهة لها في المساحة، كما كان عليها أن تتغلب على كثير من المصاعب أيضاً. وقد تمكنت حتى الآن من حل مشاكلها والتغلب على صعوباتها، وليس هناك من سبب يجعلها عاجزة عن مواصلة ذلك في المستقبل. فمراكبها وبحارتها معروفون بسمعتهم الطيبة في طول البحار الشرقية وعرضها، وبريق لؤلؤها مشهور في باريس ونيويورك، وتجارها يلاقون كل احترام من سورية إلى سنغافورة، ومن القاهرة إلى كاليكوت بالهند. وهي مكان لطيف جميل يعيش فيه المواطنون بسلام ووئام، ويساعد فيه التجار الأغنياء الفقراء من المواطنين، وفق تعاليم الإسلام، ويتصرف الشيخ كوالد للجميع.وبينما كنت أغادر المدينة في وضح النهار، وأرى قوافل الجمال وهي تدخل إليها محمَّلة بالعوسج وحطب الوقود قادمة من الصحراء، وفريقاً من الصبية وهم يسوقون حميرهم بمرح إلى حيث الآبار التي يملأون منها قربهم بالماء الصالح للزراعة، كنت أشعر بالحنين إلى البقاء هناك، حيث يمكنني أن أشتري (البغلة) التي تعجبني، وأجالس الرجال الحكماء الأجلاء موسماً آخر، وأتعلم المزيد من فنون الملاحة في البحار الشرقية. كانت الشمس تسطع باهرة في سماء صافية خالية من الغيوم، إلا أن الجو لم يكن شديد الحرارة، بل كان معتدلاً لطيفاً، والهدوء والسكينة يلفان كل شيء. وعندما كنت أنظر إلى علم الكويت الأحمر وهو يخفق على قصر الشيخ وعلى جميع المراكب الراسية في الميناء كنت أقول في نفسي ها هو علم أود لو استطعت الإبحار وأنا أرفعه على مركبي، كما أود لو استطعت أن أعيش في ظله مرة أخرى. وداعاً يا كويتي العزيزة! حق لك أن تفخري برجالك الذين يبنون المراكب العظيمة، وببحارتك الذين يبحرون على ظهورها إلى أقاصي الأرض".
توابل - ثقافات
إطلالة على كتاب: أبناء السندباد (3-3)
08-08-2017