محمود درويش الغائب الأكثر حضوراً في القصيدة

الذكرى التاسعة لرحيل فيلسوف الشعر العربي تصادف اليوم

نشر في 09-08-2017
آخر تحديث 09-08-2017 | 00:03
تصادف اليوم الذكرى التاسعة لرحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، أحد أهم الشعراء الذين ارتبط نتاجهم بالوطن المحتل، فهو لم يكن شاعرا فقط، بل كان مفكراً، لذلك لُقِّب بفيلسوف الشعر العربي، وشاعر الثورة لأنه جنّد كل إمكاناته للدفاع عن وطن محتل، فكانت تجربته الشعرية ثرية جداً بالمعاني ومضمخة بالوحدة والاغتراب، إضافة إلى قلق المكان والهوية فقد كتب نصاً درامياً مترابطاً مفعماً بالترميز والتناص مع الأسطورة.
درويش توفي في الولايات المتحدة الأميركية يوم السبت 9 أغسطس 2008 بعد إجراء عملية القلب المفتوح في المركز الطبي في هيوستن، التي دخل بعدها في غيبوبة فكانت الوفاة بعيداً عن فلسطين التي سكنت أعماقه، ووري جثمانه الثرى في 13 أغسطس في مدينة رام الله حيث خصصت له هناك قطعة أرض في قصر رام الله الثقافي.
درويش قصتنا.. درويش هويتنا.. درويش لغتنا، محمود، لاتزال قصيدتك خضراء برغم مرور نحو عقد من الزمن على غيابك، لكن حضورك هو الأكثر تأثيرا في سماء أبدية الشعر البيضاء، رحلت في ميعادك... ومازلت نابضاً بشعرك يا سيد الكلمات، وبلغت ما تريد والماء رهن بصيرتك ولغتك المجاز، فالقصيدة لم تجد غيرك مستقراً، أما الشعراء فهم يقفزون من أفكارك بيتاً بيتاً صدراً وعجزاً وشعراً حراً ونثراً، ويلهجون بشطرك: واكسر ظلالك كلها كيلا يمدونها بساطا أو ظلاما.

وفريد أنت يا محمود درويش في معناك، يكفي أن تكون هنا أو هناك وحدك كي تصير ديواناً للقصيدة، كأنك لم تذهب بعيداً، وكأنك عدت للتو من زيارة قصيرة لوداع صديق مسافر لتجد نفسك جالسة في انتظارك على مقعد حجري تحت شجرة الزيتون.

حيفا تناديك وتقول لك: الغرباء يريدون أن يقتلعوك، لكن أنت هزمتهم شعراً ومعنى، ورسخت في واقعهم والخيال، وهم الآن يتربصون بك فاحذرهم ولا تذهب إلى القربان، فهم يكمنون لك هناك، فإن الريح واقفةٌ تنتظر اقتلاعك، فلا تلمس يد القرصان، لا تصعد إلى تلك المعابد، لا تصدق، لا تصدِّق، فهي مذبحة، ولا تخمد هجيرك عندما يتقمّص السجّان شكل الكاهن الرسمي. درويش عكا تلوّح لك وتجيء مع الموج عكا تروح مع الموج وتهمس في إذنك: القصيدة خلف هذا البحر والماضي، وحراس الفراغ العاجزون الساقطون من البلاغة والطبول يقتفون أثرك، فعليك أن تمشي بلا طُرق، وراء، أو أماماً، أو جنوباً أو شمال، وتحرِّكَ الخطواتِ بالميزان، حين يشاء مَن وهبوك قيدَك، ليزيّنوك ويأخذوكَ إلى المعارض كي يرى الزوار مجدَك، كَمْ كنت وحدك!

هي هجرة أُخرى... فلا تكتتب وصيتك الأخيرةَ والسلاما.

فيلسوف الشعر

لم يكن محمود درويش شاعرا فقط، بل كان مفكراً، لذلك لُقِّب بفيلسوف الشعر العربي، وشاعر الثورة لأنه جنّد كل إمكاناته للدفاع عن وطن محتل، فكانت تجربته الشعرية ثرية جداً بالمعاني ومضمخة بالوحدة والاغتراب، إضافة إلى قلق المكان والهوية فقد كتب نصاً درامياً مترابطاً مفعم بالترميز والتناص مع الإسطورة.

تميز شعره بالمزج بين الواقع والحلم مروراً بالماضي واستشراف المستقبل.

حرص درويش على طرح الأسئلة في نصوصه باحثاً عن طرق لتغيير الواقع الموشوم بالزيف والخداع. ونقتطف مما قاله درويش:

"وحدي أراود نفسي الثكلى فتأبي أن تساعدني على نفسي

ووحدي

كنتُ وحدي

عندما قاومت وحدي

وحدةَ الروحِ الأخيرة

لا تَذْكُرِ الموتى، فقد ماتوا فُرادى أو.. عواصمْ

سأراك في قلبي غداً، سأراك في قلبي

وأجهشُ يا ابن أُمّي باللُغة

لغةٍ تُفَتِّشُ عن بنيها، عن أراضيها وراويها

تموت ككل مَنْ فيها وتُرمى في المعاجمْ

هي آخرُ النَّخل الهزيلِ وساعةُ الصحراء،

آخر ما يَدُلُّ على البقايا

كانوا، ولكنْ كُنْتَ وحدك

كم كنتَ وحدكَ تنتمي لقصيدتي، وتمدُّ زندك،

كي تُحوِّلها سَلالِمَ، أو بلاداً، أو خواتمْ

كَم كنتَ وحدكَ يا ابن أُمي

يا ابن أَكثرَ من أَبٍ

كَمْ كنتَ وحدك!

والآن، والأشياءُ سَيِّدَة، وهذا الصمت يأتينا سهاما

هل ندركُ المجهولَ فينا. هل نغني مثلما كنا نغني؟

آه، يا دمنا الفضيحة، هل ستأتيهم غماما،

هذه أُمم تَمرُّ وتطبخ الأزهار في دمنا

وتزدادُ انقساما

هذه أُممٌ تفتِّش عن إجازتها مِنَ الجَمَل المزخرفِ...

هذه الصحراءُ تكبر حولنا

صحراءُ من كل الجهاتْ

صحراءُ تأتينا لتلتهم القصيدةَ والحساما

الله أَكبرْ

هذه آياتنا، فاقرأُ

باسم الفدائي الذي خَلَقَا

مِن جُرْحِهِ شَفَقا

باسم الفدائيَّ الذي يَرحَلْ

من وقتِكم.. لندائهِ الأوِّلْ

الأوَّلِ الأوَّلْ

سَنُدمِّرُ الهيكلْ

البروة في الجليل

ولد درويش في قرية البروة الواقعة بمنطقة الجليل في فلسطين المحتلة، قرب ساحل عكا عام 1941، وعقب حدوث النكبة في عام 1948 هاجر درويش إلى لبنان، ثم عاد مع أسرته إلى الوطن بعد عام من هجرته ليجد قريته مدمرة بالكامل.

كان محمود تلميذاً متفوقاً وموهوباً في الرسم، إلى جانب الشعر، لكنه أهمل الرسم، لأنه لم يكن يملك مالاً كافياً لشراء أدوات الرسم، واستخلص من الشعر الجاهلي أجمله وحفظ أعذب الكلمات منذ طفولته، وزج بالسجن أكثر من مرة بسبب مواقفه وآرائه وقصائده.

مؤسسة درويش للإبداع

أنشأت مؤسسة محمود درويش كمؤسسة ثقافية انطلاقاً من المرسوم الرئاسي الصادر في مدينة رام الله عام 2008. تقديراً للمكانة التي تبوأها درويش في حركة الشعر والنثر الفلسطينية والعربية والعالمية، وسعياً من أجل تعميم منجزه على أوسع نطاق، وتسليط الضوء على ما يزخر به تراثه الشعري والنثري من قيم نبيلة تتمحور حول حب الوطن وصيانة كرامة الناس واحترام العقل وتمجيد الحياة، وتعزيزاً لأفكار درويش وقيمه العقلانية والتنويرية والوطنية التي عبّر عنها في مواقفه العملية وفي مجمل إبداعاته، واستجابة لتكريسه كل جهوده الفكرية والإبداعية، طوال 5 عقود من الزمن، لقضية شعبه العادلة في كفاحه من أجل الحرية والاستقلال الوطني والديمقراطية، وتعبيره الخلاق عن هذه القضية وما تشتمل عليه من أبعاد إنسانية، على النحو الذي حملها إلى شعوب العالم قاطبة، باعتبارها قضية كونية تعبر عن أوجاع بني البشر ومعاناتهم، أينما كانوا وأينما حلوا، وبهدف الاستفادة من مكانة محمود درويش لتوسيع الاهتمام العربي والعالمي بالشأن الفلسطيني، واعترافا لدرويش بتفرده الإبداعي الذي جعله محط تقدير واحترام واسعين، وحرصاً على تراثه الثقافي الفذ، وتخليداً لذكراه، ولما انطوى عليه من نبل ووفاء ودماثة خلق ومزايا شخصية أخرى عديدة، تتحمل مؤسسة محمود درويش شرف المسؤولية، وتؤكد أنها لن تدخر جهداً من أجل النهوض بمشروع ثقافي متعدد الجوانب، يليق بالقامة العالية للأديب الذي تحمل اسمه، ومن أبرز أهداف المؤسسة، جمع أعمال الشاعر وتراثه وحفظهما، وإنشاء مركز ثقافي متعدد الأغراض في منطقة ضريح الشاعر في رام الله وإدارته، إلى ذلك، اقتراح نشاطات ثقافية وأدبية وفنية وإنسانية وأكاديمية وخيرية وإعلامية وأي نشاطات أخرى يحددها مجلس الأمناء وتنفيذها ورعايتها، كما جرى تخصيص جائزة سنوية للإبداع في مجالات الثقافة والأدب والفنون تمنح لمثقفين من داخل فلسطين وخارجها.

لم يكن محمود درويش شاعرا فقط بل كان مفكراً

تجربته الشعرية كانت ثرية جداً بالمعاني ومضمخة بالوحدة والاغتراب

محمود أهمل موهبة الرسم لأنه لم يجد مالاً لشراء أدوات الرسم
back to top