الرواية القديمة
التطور البشري خط متصاعد في التطور وانتقال التجربة الإنسانية من مكان إلى آخر، أياً كان شكل تلك التجربة. والأمر ينطبق على مختلف نواحي الحياة، ومن بينها التطور الفكري والأدبي، وانتقال المغامرة الإبداعية بين بلد وآخر وجيل وآخر، وخاصة تلك المبدعة منها.الحكاية كانت أنيس الإنسان منذ وجوده في الكهف، وتظهر دراسات تطور الجنس البشري، أن الرسومات الدالة على وحوش العالم الخارجي الضارية، كانت بمنزلة عون للإنسان على تحدي الصعاب، والانتصار على الوحش بدءاً في الكهف قبل الانتصار عليه في أرض الواقع، وبالتوازي انتقال الحكاية من جيل إلى جيل لكشف أسرار التجربة الإنسانية، وخلق تسلية تضيء ظلام اللحظة.
الراوي أو الحكواتي أو أي فرد من أفراد جماعة أو أسرة، وحين كان يروي حكاية أو مشهداً فإنه ومن حوله أفراد الجماعة أو الأسرة، إنما كان يحتاج لوقت محدد ومكان محدد ليحكي فيه حكايته. وشيء من هذا حمله رواة القرن التاسع عشر الذين ساعدوا كثيراً على جعل الرواية جنساً أدبياً معايشاً لحياة الإنسان، يستلهم حوادث الواقع، وما يلبث أن يلونها بريشة الموهبة والفكر والخيال، لتأتي حكاية فنية توازي حكايات الواقع وتتفوق عليها بقدرتها على الإتيان بما تعجز لحظة الواقع الإنساني عن صنعه.الراوي كلي المعرفة، الراوي العليم، كان العنصر المشترك في الغالب الأعم من الروايات الكلاسيكية. لكن روايات بعينها كسرت المعروف، وخطّت عوالم جديدة في تبنيها لصيغة ضمير المتكلم أو ضمير المخاطب. واستخدام تيار الوعي وصيغ التذكر والتوقع المستقبلي. وهكذا ولدت رواية القرن العشرين ورواية القرن الواحد والعشرين الأهم، التي تلعب بها أصوات الرواة الحضور الأجمل في العمل الروائي، وبما يحمل ذلك من حضور للمؤلف بتجاربه الحياتية، بشكل أو بآخر، حتى إن القارئ في أوروبا، صار يبحث عن صيغ الرواة وتجربة الكاتب أكثر مما يبحث عن الحدث والحبكة.رواية الراوي العليم، هي رواية يقوم راوٍ يعلم كل شيء عن أبطالها وعن حوادثها وعن تفاصيل عوالمها، يقوم بسرد الحكاية الأساسية للرواية، وكل الحكايات المتولدة عنها، وليس على القارئ سوى متابعته فيما يذهب إليه. لكن السؤال الذي بات يفرض نفسه هو: من أين يتأتى لهذا الراوي العليم معرفة كل هذه التفاصيل عن أبطال الرواية وعوالمها؟ لنفترض على سبيل المثال أن هناك رجلاً يعيش مع زوجته وولديهما في شقة صغيرة في منطقة محددة في أي بلد. وأن هناك من يأتي إلينا، نحن القراء، ليقص علينا حكاية ذلك الرجل وكيف قابل زوجته وعاش معها قصة حب ملتهبة تُوّجت بالزواج، ومن ثم إنجابهما لولديهما، وما آلت إليه هذه العلاقة من فتور يمس العلاقات الزوجية بفعل الزمان وتصلب المشاعر الزوجية. إن قيام أي شخص بقص حكاية هذين الزوجين علينا نحن القراء، يثير سؤالاً منطقياً هو: من أين وكيف عرف هذا الرجل بهذه الحكاية؟ وما علاقته بها؟ وما مدى صدق ما يقول؟ كل هذه الأسئلة وغيرها كثير صارت تقف حجر عثرة في وجه أي رواية تستخدم صيغة الراوي العليم، خاصة إذا ما أخذ بعين الاعتبار أن البشرية تعيش ثورة المعلومات وعصر محركات البحث والتواصل البشري عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي صارت الأرض فعلاً قرية كونية صغيرة، وصار الجميع يتواصل مع الجميع. يتواصل معه صوتاً وصورة وفكراً، وبالتالي، سهُل على الكاتب تخيّل صيغة حضور الراوي سواء كانت عن طريق ضمير المتكلم أو عن طريق ضمير المخاطب، وبالتالي يصبح المؤلف هو خالق لأجواء تنطق بعوالمها وأصواتها وتواجه القارئ بقصصها وأوجاعها ومصائرها، وبما يخاطب ويحترم فكر القارئ، ويشركه في تجربة الكتابة والقراءة، وللحديث بقية.