عنوان الديوان «الطارق»، من هو الطارق؟ الأنا عندك، أم عودة الذات من التحليق في دوائر وجودية؟
يعتقد البعض أنّ الطارق هو النجم النابض أو النجم النيوتروني صغير الحجم شديد الكثافة الذي يُحدث أمواجاً كهرومغناطيسية على شكل طَرقات متتالية، تستمر ملايين عدّة من السنين حتى تتلاشى عظمته في الصمت. أمّا البعض الآخر، وبالعودة إلى السورة القرآنية، فيعتبره النجم الثاقب أو الثقب الأسود المهول الكثافة والذي يعرّف في النسبية على أنه منطقة من الزمكان، تمنع فيها جاذبيته أيّ شيء من الإفلات أو الفرار، بما في ذلك الضوء، وهو يبدو لمن يراقبه من الخارج كأنه منطقة من العدم أو كأنّه أحدث ثقباً في السماء تنهار في داخله كلّ مفاهيم الفيزياء كما الوقت والمسافة.وفي الحالتين، ولادة النابض أو الثاقب بما يختزنان من المواد الكونية الخام والطاقة الأساسية لبناء المجرّات ناتجة عن انهيار وموت نجم عملاق. أمّا «طارقي» فهو العقل بما يختزن من طاقات في الخلق والفرادة، وبما ينبض من مشاعر مدرِكة ومدرَكة، وإذا كان لا بدّ من أن يكون «الأنا» فهو «الأنا- النحن»، الأنا «الإنسان- المجتمع»، وهو عبارة عن دوائر وجودية ندور فيها بحلزونية الأسئلة اللانهائية لنشذب اليابس والمبتذل الزائد فينا، حتّى تصبح الخيانة هي الوفاء، والهدم هو البناء والغاية هي الوسيلة، ونعود إلى ذاتنا الصافية بموادها الإنسانية الخام، فنلوي ألفي الأنا لنحرر نون الجماعة ونرسم قلب السنا، «الإنسان» الإله الزمكاني ونلتوي جسوراً ليعبرنا الكلّ ونعبر «كلّنا» إلى «الإنسانية».ترسم في ديوانك عالماً تتخذ فيه الأمور أبعاداً نابعة من مفاهيمك في الكون والوجود، فهل تقصد أن تكون أنت محور عالمك، وأين الآخر وما دوره فيه؟محور كتاباتي الإنسان الباحث عن حقيقة وجوده، الصادق في مواجهته العدم والاختفاء، المجابه تواطؤ عقله مع الخوف من الصيرورة والتفافاته المخادعة على نفسه. والنظر إلى الإنسان هذا لا يحصل إلاّ من مستوى فكري جديد حيث يرتفع البشري من حدود فرديته المنحصرة في إمكاناتها إلى مطلق اجتماعيته المنفتحة على الكون. ويتحوّل هذا الوجود الإنساني الكامل وهذه الحقيقة الإنسانية الكلّية الى أجمل سيمفونيات الوجود، حيث نكون الآخر وأنا نوتات «الهية- زمكانية» لا نشاز في عبورها ولا تكرار في تكرارها...
وجودية ورمزية
إلى أي مدى تتأثر في شعرك الفلسفي الوجودي بالفلاسفة من أمثال نيتشه، وهل ترى أن الشعر يوفِّر حرية في التحليق بعيداً عن النظريات الجافة؟ حين خلعت عنّي الأجوبة الموروثة المعلّبة ووقفت عارياً حتّى من خوفي أمام علامة الاستفهام التي اتخذت شكل مفترق، كان عليّ الاختيار بين العودة إلى المدارس الفلسفية، لا سيما الوجودية منها، قبل البدء بالكتابة أو خوض تجربتي الشخصية في السؤال. ورغم معرفتي المسبّقة بأن خياري سيكون بمنزلة سيف ذي حدّين اخترت الغوص في تجربتي الشخصية، إيماناً منّي بفرادتي وبأنّه، مهما تشابهت المعاني، يبقى السرّ في طريقة إدراكها وتظهيرها، ولم أقترب في تعمّقي بنظريات الفلاسفة والمفكرين الوجوديين من حدود الغرق.أمّا الشعر بالنسبة إلي فهو فعل تجاوز بكلّ ما للكلمة من معنى، نتجاوز به السؤال بالسؤال وقساوة الفلسفة بالفلسفة والمعنى بالمعنى واللغة باللغة، ونتجاوز الأجنحة بالأجنحة حتّى الانفلات من زماننا ومكاننا وخلق حياة جديدة تليق بالإنسان «الإله-الزمكاني»... حتّى التحليق بلا أجنحة. شعرك في معظمه رمزي فهل تحاول من خلاله بلوغ الماورائيات لاكتشاف كنه الحياة والموت والفناء والعدم؟إن كان الشعر فعل تجاوز والغاية الوسيلة للتعبير عمّا لا نستطيع فهم كلّيته والتعبير عنه، وعمّا ندرك وجوده ولا ندركه، فلا بدّ من استخدام الرموز لتظهير الغموض في المعاني الوجودية.الوضوح في الشعر أنواع: الذي ينفر منه الشعر، الشفّاف كزجاج النافذة المطلّة على بحر الغموض والشفّاف المخادع.للصمت عندك مفهوم خاص، إنه أقنوم الحياة، إذا صح التعبير، فهل ضجيج الحياة جعلك تلوذ إليه بحثاً عن حقيقة ما لم تجدها لغاية الآن؟ في الحياة صوتان وصمتان: ضجيج عاقر وموسيقى، فراغ فارغ وفراغ ممتلئ بالمعاني.في الحياة دائرتان: الأولى مكوّنة من الضجيج العاقر والفراغ الفارغ، من يدور فيها يدور مكانه على هامش المعنى الحقيقي للوجود، متنقلاً بين الثرثرة والرتابة والملل، والثانية مكوّنة من الموسيقى والفراغ الممتلئ، من يدور فيها يدور حلزونياً، من العمق الى الأعمق ويرتفع بالمعاني خلقاً وابداعاً... إلى المعنى الحقيقي للحياة.للحب في الديوان مفهوم خاص وللمرأة صورة خاصة، عن أية امرأة تتحدث؟ ولماذا العلاقة معها معقدة ورباطها يستفز عقلك وتحاول الهروب منه؟لا وجود لامراة أو لرجل في الطارق إنما لإنسان. والحبّ المظهّر فيه هو للحيا،ة وإن اتخذت في معظم الأحيان صورة امرأة لأنّها تشبهها في جمالها وغموضها وتفاصيلها ومكرها وكرمها وأمومتها، وهو حبّ متبدّل متجدّد يتعدد ولا يُعدّ، نخون فيه لنكون أوفياء لحياة مهما خانتنا نحبّها حتّى الموت متى كان طريقاً إليها.تشذيب وتكثيف
تعتمد أسلوب التشذيب وتختار تعابيرك بعناية، وتبدو القصائد مكثفة المعنى وكأن كل واحدة مستقلة بذاتها، فإلى أي مدى تساعد قصيدة النثر في عملية بناء شعري لا يرتبط سوى بأفكار الشاعر ورؤيته وليس بقواعد معينة وأصول محددة؟الشعر خلق والموهبة الإبداعية رحم القصيدة، وبعد قطع الحبل السرّي لا بدّ من تنظيف الجنين من بقايا المخاض، هذا ما أسمّيه تقنية التصفية والتدوير. تقوم التصفية على تشذيب النصّ الشعري من الحشو والابتذال، ويقوم التدوير على تكثيف المعنى بإغلاق الدائرة لتمكين القارئ من الدوران حلزونياً وسبر أغوار النفس من دون السقوط في الفراغ الفارغ. جمالية هذا النوع من الكتابة مبنية على القدرة في تظهير عمق المعاني والإدهاش وفتح نافذة في حائط النصّ، يطلّ من خلالها القارئ على المدى في داخله، ولهذا النوع من الكتابة أصول كما للحرية قواعد، وإن كانت القصيدة فيه غير مقيّدة بقيود الشكل الكلاسيكية والمفاهيم التقليدية للمعنى.أمّا بالنسبة إلى نصوص «الطارق»، ورغم أنها مستقلة ومكتملة بذاتها، فهي مرتبطة ببعضها البعض كما تظهر أفقية الفهرست، حيث جمعت أناشيد الكتاب الثلاثة بعبارة «الحياة خيانة/ إله من إله/ زمكاني». ثمة صوفية في بعض القصائد، فهل هي مقصودة أم فرضتها الفكرة؟النصوص الصوفية في الطارق هي دوائر صوفية وجودية تقصدها الفكرة ولا تفرضها. هل يعتبر ديوانك الجديد امتداداً لدواوينك الماضية لناحية الهواجس والقلق ومفهومك للحياة والموت والعدم؟بدأت تظهير تجربتي وقلقي الوجودي في «كذبة صدَف» حينها كانت الحرب باردة بيننا، وعند الاحتكاك المباشر بالموت قاتلته على أرضه بالسلاح الأبيض وكتبت له «نشيد العدم» وكانت المعركة متكافئة. أعتقد أنّي في «الطارق» حققت أول انتصاراتي عليه وأعرف أنها جولة من الصراع المستمر.غوص في الحضارات
نلاحظ في شعرك أن ثمة غوصاً في الحضارات القديمة، فهل تحاول إيجاد أجوبة عن تساؤلاتك الوجودية التي لم تجدها في الحاضر؟من يريد قراءة كتاب الوجود الإنساني لا بدّ من أن يبدأ من صفحاته الأولى، ومن حسن حظنا أن تاريخ الحضارة الإنسانية بدأ بأجدادنا السومريين والأكاديين والبابليين والكنعانيين والفينيقيين الذين طرحوا الأسئلة الوجودية نفسها، وحاولوا البحث عن الأجوبة خارج محدودية ومرضية التابوهات... وأقلّه بالعودة اليهم نفهم أصول تقاليدنا وعاداتنا ولغاتنا، ومعاني كثيرة من ممارساتنا اليومية الموروثة التي لا نعرف لماذا نقوم بها.هل تحاول في نتاجك الشعري البحث عن الخلود وسبر أغوار العالم الآخر؟ ثمة ثلاثة أنواع من الناس: الذي يصنع حضوره والذي يصنع غيابه والذي يصنع الوجود الإنساني (الحضارة والإنسان). الوجود مصنع الغياب، الغياب على المستوى الفردي حالة زمكانية محدودة، عمرها الوجودي محدود بزمان ومكان، الغياب على المستوى الجماعي حالة وجودية إنسانية غير محدودة... الحالة الفردية المستشرية في المجتمعات البشرية حتّى لو أدت إلى إنتاج فكري مهم مصيرها الفناء... في الـ «نحن» وحدها يصنع الغياب الإنساني العظيم ووجود الإنسان الحقيقي ويتحول الزمن من أرض اغتراب إلى وطن.وُلِدتَ في الحرب التي عصفت بلبنان، فهل تسللت إلى شعرك؟ وهل لها دور في اتجاهك نحو التعمق في الفلسفة الوجودية؟ الحروب كالقطط الجائعة تأكل بعض جرائها لتغذية البعض الآخر... العقلانيون يتغذون من الإنسانية ويكبرون بالنضج والحبّ، الغرائزيون يتغذون من الأنانية ويكبرون بالجهل والكراهية.أدباء المهجر
تطرق أدباء المهجر اللبنانيون إلى علاقة الإنسان بالله وقضايا تتعلق بمسائل الكون والوجود، من بينهم أمين الريحاني ابن الفريكة قرية مكرم غصوب، فإلى أي مدى تأثر بهم؟ يجيب: «ممّا لا شكّ فيه تأثر أدباء المهجر اللبنانيين بالفلسفة الوجودية... فالنزعة الوجودية/ العدمية امتدت من مواكب جبران إلى يوم نعيمه الأخير، مروراً بطلاسم ايليا أبو ماضي. أمّا أمين الريحاني، وكما يرى الفيلسوف اللبناني كمال الحاج، فكان أول مفكر وجودي في العالم العربي أعلن مبدأ الالتزام قولاً وفعلاً».يضيف: «رغم أنّ «مدرحيتي» (ثنائية المادة والروح) قريبة نوعاً ما من فلسفة الريحاني التي عرّفها الدكتور أمين البرت الريحاني بالـ «وقرحية» (الواقعية الروحية) في كتابه «صفوة الفلسفة الريحانية»، إلاّ أنّي لم أتأثر بشكل مباشر بأي منهم وربما أثّرت بي طبيعة قريتي الفريكة وواديها عظيم الجمال، جليل الحضور كما فعلت بفيلسوفها الريحاني».