أغنية وفاء للندن (1 من 2)
1 - خرجتُ من سرير، كان ملاذي الأخير، واتجهت بحذر السارق فجراً إلى المطار. لم ألتفت إلى المدينة التي أنتسبُ إليها مودعاً. لقد تماهت مع وجه القاتل. في يوم جديد عليَّ صرتُ في لندن، ولم أخرج منها حتى اليوم. كانت أيام الرعاية فيها يسيرة، آنذاك، ولا تتطلب لجوءاً سياسياً أو إنسانياً. عدد قليل من السنوات وتحصلُ على المواطنة. والذي عزز من رعايتها إصابتي القلبية، فطببتني، وقالت دواءك مجانا. يسَّرت لي العمل، وأخذت بيدي للمصرف، ليقرضني مالاً كفيلاً بشراء بيت يفوق حلمي. في المقهى تأتي النادلة مبتسمة لتقول: Yes love, how can I serve you?. لم يكن بيتي في مركز الحي، لذا تأتي المكتبة العامة في هيئة شاحنة طويلة، تقف عند الركن من الحديقة العامة كل أسبوع. لم أكن أُحسن القراءة الإنكليزية بعد، لكني أطمع في مزيد من الموسيقى الكلاسيكية، أُصغي إلى لغتها التي لا تحوجني إلى ترجمان. أستعيرُ الأسطوانات السوداء، أسجلُها على كاسيت أحتفظ به، وأُعيدها الأسبوع التالي. مع القراءة صرت أشتري الكتاب المستعمل، ولكي أحصل على الكتاب الجديد، إذا كان مُلحّاً، شجعتني لندن على أن أتصل بالناشر، لطلب "نسخة مراجعة" أكتب عنها في الصحافة العربية. كانت الاستجابةُ الحسنة النية تُشعرني بالذنب: الصوت النسائي عادة ما يقول لي: Yes dear, give me your address، دون أن تسألني عن مصداقية طلبي. ويصلني الكتاب بعد أيام. أقرأه، أكتب عنه، وأرسلُ نسخة مما أكتب إلى الناشر. يقول لي الصوت النسائي ذاته: How beautiful the Arabic calligraphy is، لأنها لا تُحسن قراءته. ومع الأيام مكنتني المدينة من شراء الأسطوانة والكاسيت والـ CD والـ DVD، والكتب وأدوات الرسم، وشراء تذاكر الأوبرا، والكونسيرت، ومعارض الفن، والمسرح والسينما.
كانت عيادةُ العائلة الطبية على مقربة، ولا يبعد عنها المستشفى كثيراً. في ساعة الحرج الصحي يتناوب عليَّ هذا وذاك، ولا أُترك لمشاعر اليُتم تقتات على كياني الإنساني، بسبب زحمة الماضي العراقي في الذاكرة. لندن تُدبّر كأمٍّ رؤوم كل هذا مجاناً، وكأنها تسعى، لا لطبابة، بل لتخفيف وطأة الماضي وحدها. لندن تبعث في البريد كل أسبوع حزمة مطبوعات تذكرني بألا أغفل واحدة من حقوقي كمواطن. وحقوقي كمواطن لا حصر لها. أتحرج منها جميعاً، إلا بطاقة التنقل المجانية في الباص الأحمر ذي الطابقين والأندرغراوند، فقد كانت مسرتي في اكتشاف خبايا هذه السيدة المُسنة العطوف. صديقتي، ونحن نغادر الديسكو، تأخذ بيدي تحت المطر في ليل هامرْسميث. تشدُّ على أصابعي، وكأنها تذكرني بألا أغفل واحدة من حقوقي فيها. تركض، وأنا أتبعثر تحت خطاها كالبلّور.2 - كنتُ أحوجَ ما أكون للغة الإنكليزية، لأنها نافذةُ معرفة. وكنت أحوجَ ما أكون إليها دون سواها، لأنها تعلمني صياغة الجملة العادلة، التي لا تبخس حق العقل لصالح العاطفة، أو العكس. تعلمني، حين أضع الجملة، أن أتعفف من إملاءات البلاغة والخطابة اللفظيين. وحين أضع النقطة أكون وفيتُ لضمير الكلام. حين تُرجمتْ قصائدي للإنكليزية رأيتُ، كمن يستيقظ، كثرةَ الصياغات العربية التي لا معنى لها في قصيدتي، والمفرداتِ العربية المُملاة من خزين الخطابة. رأيتُ كم كنتُ منفصماً كشاعر، بين كيانين: لفظي وآخر إنساني. فسعيت بفضل الإنكليزية لتوحيدهما. القصيدة الإنكليزية علمتني في سياق مختلف عن تعاليم اللغة الإنكليزية، بل متعارض، لأنها أحاطتني بمحاذير في حقل التأثر بها ومحاكاتها. علمتني بأنها ليست وليدة لغة إنكليزية فحسب، بل وليدة حضارة حياة من دم ولحم، امتدت قرابة ستة قرون. وأن "ييتس"، "أليوت"، "أودن"... الذين يبدون لي نصوصاً على ورق، هم أشباحٌ أيضاً لا تكف عن الحياة وراء النصوص، داخل ضباب زمان ومكان بالغيْ الخصوصية. وما من أواصر كافية بيني وبينها تكفل صحة المحاكاة والتقليد، فحذرتُ من قناع المهرج. على أن حذري وفّر لي من سبل المعرفة الكثير.