الرئيس الصياد... والرئيس المتسوق
يمكن لصورة واحدة أن تختصر صورة زعيم أو عصر في أذهان الكثيرين؛ ومن ذلك أن صورة زعيم ينكب على وجهه في لقاء ما أمام عدسات المصورين، أو صورة رئيس ينظر بشكل مبتذل إلى امرأة، أو صورة آخر يتلقى إهانة من مضيفه، كلها مشاهد يبقى أثرها، وربما لا تمحوه الحقائق والإنجازات السياسية على الأرض.
![ياسر عبد العزيز](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1512244064030000400/1512244070000/1280x960.jpg)
ليس هذا خبراً إجرائياً مدعماً بالصور، عن تفاصيل عطلة يمضيها الرئيس، كتلك الأخبار التي يتم تداولها عن عطلات نظرائه في دول العالم المختلفة، ولكنه تدشين لحملة انتخابية، يريد الرئيس أن يتوجها بالفوز في الانتخابات الرئاسية المنتظرة، في مارس المقبل.يبدو أن المطلوب هو إدراك أن الرئيس في طريقه إلى النجاح في تحقيق هدفه، مثلما نجح تماماً في اصطياد السمكة الضخمة المراوغة، ويبدو أيضاً أن القوة والدأب والمجالدة التي يتحلى بها في الصيد، ساعدته في خوض غمار الصراعات الدولية التي ينخرط فيها ويحقق نجاحاً؛ كما في القرم، وسورية، ومناطق أخرى داخل بلاده وخارجها، في مواجهة أعداء ومنافسين أقوياء.يعطينا هذا المثال العبرة الأوضح لتأثير الصورة في مسار العلاقات الدولية والتنافس السياسي؛ وهو تأثير يبدو أكثر فاعلية من ذلك الذي يتحقق عبر الخطاب، والإنجازات السياسية، وحتى استخدام البرهنة والمنطق والحجج الوجيهة.في مقابل صورة بوتين اللامعة الطامحة إلى تعزيز حظوظ الرئيس التنافسية، ومعاونته في تكريس هيبته، برزت صورة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، التي التقطت في وقت سابق هذا الشهر، وتم ترويجها على نطاق واسع جداً، حيث تظهره وهو يرتدي ملابس غير رسمية، ويحمل أكياس بقالة (بينها أوراق تواليت)، بعدما أنهى التسوق في أحد "المولات" التجارية بالعاصمة الفرنسية باريس.ماذا تعني صورة هولاند متسوقاً؟لا يمكن اعتبار أن تلك الصورة تمثل لحظة خاصة لشخصية عامة، ومن ثم يجب على أي "باباراتزي" ناجح أن يحرص على التقاطها.ليست تلك صورة للتسلية والتطفل على خصوصية شخصية عامة، وليست أيضاً من تلك الصور التي ترد في باب المنوعات والقصص الطريفة، إنها صورة لما يمكن أن تفضي إليه حالة تداول السلطة في بلد ديمقراطي، إنها صورة توضح لنا أسباب ما نراه في بلادنا من دمار وخراب وصراعات على السلطة، لأنها ببساطة توضح أن المجتمع الذي أفرزها نجح أولاً في إرساء آليات للتنافس على السلطة، وفي إيجاد سبل سلمية لتداولها، ومن ثم يمكن لأي شخص أن يتولى منصباً رئاسياً اليوم، أن يذهب إلى السوق لشراء "ورق تواليت" غداً، بعدما يخرج من منصبه، من دون أن يضايقه أحد. يعد هذا أمراً عصيباً في ليبيا، التي قُتل آخر زعيم لها في ثورة، ونُفي الزعيم الذي سبقه، أو في العراق الذي أُعدم زعيم له صبيحة يوم العيد، وسُحل آخر ملوكه في الشوارع، أو في مصر التي سُجن رئيسان سابقان لها، وقُتل ثالث، أو في تونس التي هرب رئيس لها خارج البلاد، وغيرها من الدول العربية المنكوبة بالدكتاتورية والتكالب على السلطة.تظل الصورة أبلغ تعبير من ألف كلمة كما يقول الصينيون، والصورة السياسية التي ترسم ملامح الزعامات بالذات لديها تأثير أكبر وأكثر امتداداً في الزمن.لذلك، فقد حرص زعماء كبار على صورتهم؛ إذ استخدموا الصبغات، و"المكياج"، لكي يظهروا في صورة أكثر حيوية وشباباً.يمكن لصورة واحدة أن تختصر صورة زعيم أو عصر في أذهان الكثيرين؛ ومن ذلك أن صورة زعيم ينكب على وجهه في لقاء ما أمام عدسات المصورين، أو صورة رئيس ينظر بشكل مبتذل إلى امرأة، أو صورة آخر يتلقى إهانة من مضيفه، كلها مشاهد يبقى أثرها، وربما لا تمحوه الحقائق والإنجازات السياسية على الأرض.نعود إلى بوتين، الذي تقول التقارير إن صورته سابحاً عاري الصدر، كما صوره الأخرى التي تظهره في أوضاع الجاهزية البدنية، ترفع شعبيته باطراد، حتى إن التوقعات كلها تشير إلى فوز مؤزر سيحققه في الانتخابات المنتظرة.لهذه الأسباب، يجب أن يحرص الزعماء على صورتهم؛ إذ تبرز العلاقة واضحة بين "الصورة الذهنية" للقائد (أي جملة الانطباعات المتولدة عنه في أذهان الجمهور)، وبين صورته الفوتوغرافية.يعد هذا مناط تكليف للفرق الرئاسية، وخبراء العلاقات العامة، وحين يفشل هؤلاء في مهمتهم فإن فرص الرئيس تتضرر.أما أفضل ما يمكن أن يحصل عليه قائد ما في هذا الصدد، فليس سوى صورة براقة تظهر الشجاعة والقدرة والإرادة، أما أفضل ما تحصل عليه الشعوب، فليس سوى صور تتسق مع الواقع وتعبر عنه من دون ألعاب "البروباغندا" وأكاذيبها ومبالغاتها.لذلك، فإن مقارنة صورة هولاند يشتري "ورق التواليت" بصورة بوتين يصطاد السمك عاري الصدر، قد لا تصب مباشرة في مصلحة الأول، ولا تنزله مواضع الفخار التي يحتلها الآخر، لكنها بكل تأكيد تصب في مصلحة فرنسا.* كاتب مصري