عيب عليك
عيب عليك، عيب عليك وعلى من حذا حذوك، وإن كان عيبك أكبر بحكم موقعك وكرسيك وقسمك. يوما بعد يوم، فرصة بعد فرصة، تستغلين أنت المشاعر الهائجة بالآلام والمخاوف، مشاعر لم يحكمها منطق ولم يهذبها التفكير المستحق والقراءة العادلة للمواقف، مشاعر تنفيس لا عقل لها ولا مبدأ يحكمها، تنتقين نقطة الضعف، لحظة الخوف، موضع الألم، فتضغطين، ثم تصيحين وتصرخين، فيتبعك الضعيف الخائف المتألم، فتخلقين جمعا أهوج تصرخين أنت به وهو يردد خلفك بكل مخاوفه وآلامه ثم أنانياته، هذه الأنانيات التي تكبر بالوعود وتتغذى بالمخاوف والآلام والتي تضمن اسمك في صناديق الانتخاب. الرؤية المعاصرة للتعامل مع الهزائم والآلام رؤية مختلفة، فالشعوب الذكية لا تتباكى طويلاً على آلامها ولا تحمل أحقاداً شخصية على كينونات سياسية، الشعوب الذكية تنتقم لنفسها بالمثابرة والتقدم، بالنجاح والتعالي على الجراح، لا بمعاداة الآخر ومقاطعته بسبب أحداث سياسية مهما عظم شأنها، الشعوب الذكية تعلم أن العلاقات الدولية ليست علاقات شخصية، فيها زعل وشماتة وقطيعة، الشعوب الذكية، والحكومات الذكية والدول الناجحة هي التي تتخطى ماضيها وتبني على جراحها وتعلو على من آذاها بتطورها وتقدمها وعلوم أبنائها، ولنا في اليابان، من حيث منهجيتها بعد الحرب العالمية الثانية وبعد كارثة القنبلة النووية التي مسحت مدينتين يابانيتين عن وجه الأرض وتسببت في تلوث بيئي خطير يستمر أثره إلى الآن، أفضل مثال.ولأننا لسنا اليابان ولأن الظروف غير الظروف، فمن المتوقع أن طريقة التعامل مع الجراح ستكون مختلفة كذلك، ولكن، مهما اختلفت العقلية والمنهجية فلا بد في النهاية من مواجهة الحقائق. إلقاء التهم والاستلذاذ باستثارة الجراح وتهييج الآلام استجماعاً لآراء الناس هي وسيلة رخيصة لتغييب حقائق لابد لنا من مواجهتها، حقائق تستصرخنا دماء شهدائنا وآلام أسرانا وكل يوم من أيام شهورنا السبعة المظلمة أن نتواجه معها، فنقطع الحق من أنفسنا. الغزو كان كارثة سياسية وجريمة إنسانية نعم، ولكن من الذي ظل يضخ أموالاً طائلة في جيب الرجل المعتوه مسانداً إياه في حربه ضد إيران وممولاً إياه وهو يقتل شعبه ويقصفهم بالكيماوي ويقبرهم في المقابر الجماعية؟ ما كان موقف دول الخليج، وكلها تعلم بطغيانه المرعب وتغرق أراضيها باستخباراته الفاجرة، من "حامي البوابة الشرقية"؟ نعم، للكويت وأهلها حق أن تتألم، ألا تنسى حتى وهي تحاول أن تغفر، ولكن ليس من حقها أو من حق بقية دول الخليج أن تبرّئ نفسها من تاريخها مع الطاغية، ليس من حقها أن تتخلى عن مسؤوليتها تجاه أهل العراق الذين كانوا يدفنون في مقابره الجماعية ويقتلون بالكيماوي ويضطهدون ويذلون على أرضهم كل يوم وصدام يُمجد ويُتغنى به في بقية منطقة الخليج والعالم العربي.
أعرف أن الآلام لا تسمح بمساحة كبيرة من المواجهة، أعلم أننا بشر وأن مشاعرنا تطغى على منطقنا، ولكن يفترض أن الزمن الذي مر والخبرات التي اكتسبت يمكناننا من الجلوس الهادئ على طاولة محاسبة النفس، فالطريقة الوحيدة التي نضمن بها سلامة أرضنا وشعبنا هي الاعتراف بأخطاء الماضي والتعلم منها. نحن مجروحون، وطعنة الظهر لم يبرأ جرحها بعد، ولكن الشعب العراقي ليس مجروحا فقط، بل هو مضعضع الجسد، والطعنات المتتالية التي تسددت إليه لم تضمد بعد حتى، وما الكراهية المستثارة الآن لتاريخه ولهجته وجيرته سوى كراهية الجاهل المستغل للحظات الضعف، كراهية من يود إحراز نقاط على حساب مشاعر وآلام الناس، كراهية المتعالي عن أخطائه المقاد بعنصرياته.ولأنني لا أعرف الكثير عن موقف الفنان كاظم الساهر، فقد بحثت بجد وما وجدت له سوى مقابلة يدين فيها بشدة الاعتداء على الكويت ويتعاطف فيها بشدة مع شعب بلده الذي عانى بطش النظام الصدامي كما لم يعان غيره. أما موقفه السابق تغنياً لصدام، فهو لا يختلف عن مواقف بقية فناني وشعراء العرب ومنهم الكويتيون المخضرمون. هذا التغني توقف من الساهر وغيره بعد الغزو الإجرامي، حين اتضحت الصورة وأجبر الجميع على مواجهة الموقف، فما الذي يفرق الساهر عن غيره من الفنانين العرب؟ بل إن للساهر حجة أنه كان يغني لرئيس بلده، وربما كانت هناك ضغوطات عليه وإن لم يرد الاعتراف بها، ولكن ما حجة فناني بقية العالم العربي والكويتي تحديداً؟ليس الموضوع حقيقة هو دخول الساهر من عدمه للبلد، وإن كنا نود لو أن الفن يجمع ما شتتته السياسة، فأن تستلزم "الحصافة العاطفية" عدم غناء الساهر الآن في الكويت، فهذا يمكن تفهمه، ولكن الكلام المشين الذي صاحب الموضوع، التشويح والصراخ والضرب في عمق الآلام، الإساءة للفنان والإساءة للشعب العراقي وللهجته، التخلي عن المسؤولية ورفض مجرد الاعتراف بآلام هذا الشعب التي امتدت على مدى خمسة وثلاثين عاماً من عمر الحكم الصدامي، هل هذه من الأخلاق في شيء؟ إن ما حدث مع كاظم الساهر لا يمثل مجرد إهانة لفنان، بل هو يمثل عقلية كاملة للطريقة التي يتعامل بها ساستنا مع تاريخنا، للطريقة التي نتداول بها أخطاءنا ومسؤوليتنا. كان الأجدى، مراعاة لجرح يبدو أنه لم يندمل بعد، تسوية الموضوع وإلغاء الحفل بهدوء، أما التكسب النيابي، والإهانات الموجهة لتاريخ ولهجة شعب بأكمله لا يزال يعاني ويموت جراء قصة، لنا كدول خليج ودول عالم عربي يد كبرى فيها، فعيب، عيب كبير.