أعتقد جازمة ضرورة أن تكون هناك آصرة حب أو صلة نفسية متينة بين الروائي وأبطال رواياته، أو بين كتّاب السير والشخصيات التي يسبرون أغوار حيواتها. وبلا هذه العلاقة الساحرة تستحيل الكتابة إلى سطور خاوية بلا روح، اللهم إلا تمرير معلومة، أو تسجيل حكاية جوفاء. ويمكن بذات المعنى تطبيق هذه الملاحظة على المترجم، الذي يتصدى لترجمة ما بين يديه من أثر أدبي أو فكري. فطالما قرأنا لمترجمين أفذاذ كانوا يقاربون روح المؤلف بفهم أصيل، فتأتي ترجماتهم كنحتٍ موازٍ للنص، أو أشبه بإعادة كتابة للنص بلغة تملك كل مقومات الإبداع الأصيل.
يحضرني في هذا المقام ترجمات جورج طرابيشي، مثلاً، أو عفيف دمشقية، الذي أعاد نحت أعمال أمين معلوف ذات الظلال التاريخية، بلغة تشبه روح العصر الذي كُتبت عنه، وبمقاربة مبدعة في إنشاء الجملة وانتقاء المفردة وخلق أجوائهما الفائحة برائحة الشغف والفهم. أستعيد هذه الخاطرة، وأنا بصدد قراءة كتاب "حليب أسود"، لمؤلفته أليف شافاق، ومترجمه محمد درويش. وقد سبق لي أن قرأتُ للمؤلفة عدة روايات بترجمة درويش، وكانت الترجمة تمرّ مرّ الكرام في معظمها، بيد أن ترجمته لكتاب "حليب أسود" كانت أشبه بتجرّع حليب فاسد. ولا أدري إذا كانت ترجمة متعجلة، أم تمت على مضض! ويبدو لي أن موضوع الكتاب لم يرُقْ للمترجم، أو لم يقع في دائرة اهتمامه وفهمه. وهو موضوع "نسوي" محض، يعالج صورة من صور هموم النساء البيولوجية والنفسية، وعلاقة ذلك بمسألة الإبداع والكتابة لديهن. والموضوع بهذه الصورة يكاد يندرج ضمن إطار "النسوية – feminism"، وما ينطوي عليه المصطلح من جدل تاريخي واجتماعي وأدبي. والكتاب في عمومه أشبه بالمذكرات الذاتية، تستعيد فيه الكاتبة ما عانته من "حالة اكتئاب" مرضية بعد ولادتها لطفلتها الأولى. يسبق ذلك جدلها الذاتي مع نفسها، في محاولة لحل إشكالية أن تكون زوجة وأماً، أم كاتبة متفرغة لحرفة الكتابة، وهل هناك من إمكانية للتوفيق بينهما، في ظل ما تنوء به المرأة من تعدد المهام الموزعة بين الزوجية والأمومة والأسرة والكتابة؟ وهو موضوع قديم منذ فيرجينيا وولف و"غرفتها الخاصة"، التي تمنتها معتزلاً لمتعة الكتابة وتحقيق الذات، بعيداً عما يرهق كاهل المرأة من مسؤوليات جنسها، كونها أنثى تم تحديد نطاق دورها في المجتمع. ويمكن لقارئ "حليب أسود" أن يتحسس بسهولة تشعث الموضوع وصعوبة إدراجه تحت جنس أدبي محدد. فقد مزجت فيه الكاتبة بين مقتطفات من سيرتها الذاتية، وبين فقرات كثيرة تدرج فيها سيراً لكاتبات أخريات من النساء عبر العصور، مع إضاءة مواضع التأزم والمعاناة في حياتهن. وبين هذا وذاك تدخل في جدل وشجار مع الشخصيات المتعددة التي تتصارع في ذاتها، والتي تمثلها في حالات مختلفة ومتناقضة، كشخصية المفكرة الرصينة، أو شخصية المتحررة، أو الشخصية الروحانية، أو الشخصية الأنثوية الملامح، أو ربة البيت المهادنة... وهكذا، في محاولة منها للوصول إلى حالة من الانسجام والتلاؤم بين هذه الشخصيات المصطرعة في داخلها. لكن كثرة تكرار المحاورات بين هذه الشخصيات بين فصل وآخر، جاء بشكل مفرط وممل، ما يُعدّ ضمن الهنات الملحوظة. ويبدو أن الملل من الحوار المكرور تسرب إلى نفس المترجم أيضاً، فأخذ يصوغ تلك الأحاديث كيفما اتفق بلا بهجة.وبسبب هذا التشعث أشعر بأن الكتاب يفتقد شيئاً ما، ربما يفتقد التماسك أو المنهجية أو خارطة كتابة أكثر ذكاءً وتوظيفاً لتقنية فنية مقنعة. ثم تأتي الترجمة المهلهلة، لتزيد من هنات الكتاب، وتضعه في خانة حرجة تستحق التساؤل. يحضرني في هذا المقام مقال للروائي أمير تاج السرّ نشره أخيرا في حسابه على الفيسبوك، يدور حول وضع الترجمة حالياً، وحاجة دور النشر الماسة إلى "المحرر اللغوي" و"المحرر الأدبي" اللذين يفتقدانهما بفداحة. ونحن نضم صوتنا إلى الزميل العزيز، فوراء كل عمل جيد جنود مجهولون ومهمون يصقلون وجوه المؤلفات ويزيدونها إشراقاً.
توابل - ثقافات
حليب أسود
15-08-2017