تسقط سائحة كندية تُدعى فيونا (فيونا غوردون) في نهر السين أثناء سيرها على الجسر، تخطئ حين تطلب من عداء التقاط صورة لها. تبتسم للكاميرا وتقلّد حركات العداء، راكضةً في مكانها. فتتكفّل الجاذبية وسوء الحظ بالباقي.صحيح أن هذا المشهد المضحك مدروس بإتقان، إلا أن ما يعلق في ذاكرتك لا يقتصر على الحركات، بل يشمل أيضاً التعبير المتعاطف الذي يعلو وجه العداء فيما يتمسّك بهاتف فيونا ويهرع نحوها فيما تسحبها مياه النهر الجارية. صحيح أن الهفوات المضحكة القاسية تشكّل علة وجود هذا العمل، إلا أن إنسانية أهل باريس الرقيقة وذلك الإحساس الضمني بأن التطورات كافة ستنتهي على خير ما يُرام تلطف من وقعها.
وهذا ما يحدث فعلاً في هذا العمل المميز، وهو الفيلم الرابع لغوردون ودومينيك آبيل، وهما مؤديان فكاهيان متزوجان من بروكسل (تشمل الأفلام السابقة التي أعداها ومثلا فيها L’iceberg، Rumba، وThe Fairy. وقد شارك برونو رومي في إخراجها).بعدما شحذ هذان الزوجان مهاراتهما طوال سنوات في الأعمال البهلوانية وتشرّبا التقاليد الفكاهية الجسدية المميزة لجاك تاتي وبيار إيتيه، تنجح أساليبهما القديمة الذكية والمبتكرة دوماً في رسم ابتسامة على وجه المشاهد، مع أن مصدر إلهامهما بدأ ينضب بعض الشيء.
ألوان زاهية وإتقان
يحمل عملهما الأخير بقصته البسيطة كثيراً من الألوان الزاهية، وتتناسق أجزاؤه بذكاء. بدقائقه الثلاث والثمانين، لا يطيل البقاء ولا ينتهي مبكراً. تبدأ القصة في مجتمع كندي تغطيه الثلوج حيث تتلقى فيونا، أمينة مكتبة في منتصف العمر، رسالة من عمتها مارثا (إيمانويل ريفا) التي غادرت البلدة قبل عقود لتعيش في باريس. تطلب مارثا، التي بلغت الثامنة والثمانين من فيونا القدوم لزيارتها والحؤول دون إرسالها إلى دار العجزة، علماً بأن هذا الاحتمال المحزن لا يبدو مفاجئاً نظراً إلى الدرب المعقد والغريب الذي تسلكه الرسالة لتصل إلى طاولة مكتب فيونا.يبدو أن فيونا ترث بعض غرابة عمتها، وتحوّلها غوردون إلى شخصية غريبة تستمتع بمشاهدتها. تصل إلى باريس مرتدية زياً أخضر زاهياً يناقض بوضوح لون شعرها النحاسي، وحقيبة ظهرها الحمراء الضخمة، والعلم الكندي المعلّق أعلاها، ما يجعلها تبدو للناظرين إليها أشبه بشجرة عيد ميلاد متحركة. بعد وصولها ببضع ساعات، تسقط في نهر السين وتفقد حقيبتها وجواز سفرها. ويشاء القدر أن ينتهي المطاف بهما بين يدي دوم (آبيل)، متشرّد يهيم في المدينة تعِد ملامحه، التي تذكّر بالأقزام، المشاهد بكثير من الهفوات المضحكة.ثنائي غريب
لا عجب في أن نشير إلى أن دوم وفيونا، رغم العالمَين السينمائيين المختلفين اللذين يأتيان منهما، يتحوّلان إلى ثنائي غريب عالي الانسجام. ندرك هذا الواقع من اللحظة التي يسحب فيها دوم فيونا من مقعدها ويديرها على حلبة الرقص في خطوات صمّمها برشاقة المصوران السينمائيان كلير شيلدريك وجان-كريستوفر لوفورستيه، وتسمح للمشاهد بتأمل جسمَي الممثلين بأطرافهما الممشوقة النحيلة في لقطات طويلة غير مقطعة.صحيح أن Lost in Paris يحفل بالهفوات الصغيرة، والإخفاقات الوشيكة، والمصادفات المجنونة، والهويات المختلطة، إلا أنه أقرب إلى دوامة لا تدور مطلقاً بسرعة جنونية أو تقذفك بما تحمله. يبدو كأحد أعمال جان-بيار جونيه محقوناً بمهدئ مع جرعة ملطّفة من ميل ويس أندرسون إلى المعايير المدروسة. علاوة على ذلك، تحوّل هذا العمل عن غير قصد إلى وداع جميل لريفا، التي رحلت هذه السنة (بعد بضعة أشهر من عرض الفيلم في المهرجانات)، والتي قدّم أداؤها المتعدّد الأوجه في أفلام Hiroshima, Mon Amour,Leon Morin, Priest، وAmour للمشاهد لمحة بسيطة عن مقدراتها الكبيرة.في هذه المرحلة، يتوقف الفيلم بهدوء كي يتيح لمارثا الاجتماع مجدداً بصديق قديم (بيار ريشار، أسطورة أخرى من أساطير السينما الفرنسية). فتركّز الكاميرا على أقدامهما فيما يؤديان حركات ناعمة متقنة. يشكّل هذا أحد أجمل العروض الجانبية، إلا أنه يمثّل أيضاً لحظة رمزية في فيلم يتبع نبضه الخاص الغريب المحب للحياة.