وطنٌ يبكيه الوطن!
ضحكتي يوم أنا طفل رضيع.. ما سوَت عبرتي عن الوداع(ابن لعبون).. وكأن عبدالحسين عبدالرضا كان منذ البدء على علم بأننا سنصبح من سلالة الحزن، ومن أبناء الدمع عند رحيله، كأنه كان يدرك مدى عمق الثقب الذي سيتركه في قلوبنا مفتوحاً يشرب من شهيق عبراتنا ولن يرتوي، وأننا سنرفع الرايات السوداء على نواصي أرواحنا لسنين يصعب التكهن بعددها، بعد انتقاله إلى العالم الآخر، كأنه كان يعي، بحسه الفني وروحه الشفافة منذ صعد أول خطوة له على خشبة المسرح، فاجعة فقده التي ستلتهمنا بعدما يقارب 55 عاماً منذ تلك الخطوة، كأنه استشف هذه الحقيقة الموجعة مبكرا ومنذ ذلك الوقت، لذلك لم يتوقف عن ملء قلوبنا من حينها بالضحكات التي لا ينالها اليباس، ونهر جارٍ من الابتسامات لا يجفّ!
لم يترك الفنان عبدالحسين عبدالرضا مساحة فارغة في قلوبنا إلا وغَرَس بها شجرة كشجرة الميلاد، إلا أن ما يتدلى من أغصانها قناديل بهجة، منذ كنا صغارا ومسلسلات الأبيض والأسود في التلفزيون الكويتي و"أجلح وأملح" و"أبوعليوي"، وذلك "الملقوف" لايزال يحمل فوق منكبيه حقيبة ملآى بعالم من الفرح يوزع منها مجانا لكل من يصادفه دون أن يعرفه، لم يسأل أحداً قط عن هويته قبل أن "يتصدّق" عليه ببسمة تحسّن من وضع شفتيه، أو يجزل العطاء له بضحكة تغسل أنفاسه في صدره، حتى بعد أن مشى في شرايينا بـ"درب الزلق"، لم تهتز تلك الحقيبة، ولم تتحرك قيد شعرة من فوق منكبيه، ولم يغير "الملقوف" حتى بعد أن أصبح "حسينوه" عادته في "التصدّق" بالبهجة لكل الناس بلا تفرقة ودون أن يسأل أياً منهم عن طبقته، أو دينه، أو طائفته، أو مذهبه، أو انتمائه، أو جنسيته، أو جنسه، أو لونه.منذ أن كنا صغاراً، وحتى آخر عهدنا به في هذه الدنيا، وهذا الفنان الاستثنائي لم يغيّر "سنّته" في توزيع عطاياه، ساميا عن كل ما يسلب إنسانيته، متحداً مع نُبل رسالته كفنان وُلد بقلب يتسع للجميع، بلا استثناء، ولا إقصاء لديه إلا لسوس القلوب من الناس الذين إذا دخلوا قلباً نخروه، لذلك عاش الفنان عبدالحسين عبدالرضا بقلب نظيف لا يفتحه إلا لمن يثق أنه سيحافظ على بقائه نظيفا، كما يشهد بذلك كل من عرفوه عن قرب.عبدالحسين عبدالرضا ليس فنانا فقط، إنه وحدة وطنية، ونسيج اجتماعي متماسك ومتين، إنه التقاء الطرق في فضاء المتاهة، وهو نقطة التجمع للانتقال إلى طفولة قلوبنا، ليس هربا من الحياة، لكن لزيادة رقعة الجمال.كان من الضرورة الوجودية أن تولد مساحة هائلة من الجمال اسمها عبدالحسين عبدالرضا، مقابل مساحة البشاعة الهائلة التي تهدد بأكل أرواحنا كل لحظة، ليصالحنا مع الحياة، لذلك حرص عبدالحسين عبدالرضا منذ اللحظة الأولى على أن يستثمر جل حياته بملء حياتنا بالضحكات، تحسباً للحظة سيبكي فيها كل الوطن فراقه كثيرا، لكن هيهات! كل ضحك الدنيا لن يكون عزاءنا في وداعك يا أبا عدنان، وسنظل نردد بيت ابن لعبون ما حيينا.