تتماشى الصورة التي عكسها مبعوثو الاتحاد الأوروبي في تقريرهم حول أوضاع اللاجئين في ليبيا مع تجارب بعض الأشخاص الذين يقدمون المساعدة للمهاجرين. حتى أن الدبلوماسيين الألمان ذهبوا إلى حد اعتبار الظروف في المنشآت الليبية «مشابهة لمعسكرات الاعتقال».لكن لم تمنع أيٌّ من هذه المعطيات بوريس بيستوريوس، وزير الداخلية في ولاية ساكسونيا السفلى، من إعادة طرح الاقتراح القديم. ينتمي بيستوريوس إلى «الحزب الديمقراطي الاشتراكي» اليساري الوسطي، وطالب في مقالة حديثة في الصحيفة الألمانية اليومية «سوديوتش زيتونغثات» بإيواء اللاجئين في ليبيا، مع أنه أكّد ضرورة أن يتحمّل الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة مسؤولية إدارة تلك المخيمات، معتبراً أن هذه الخطوة ستكون الطريقة الوحيدة لمنع المهاجرين من القيام برحلة خطيرة عبر البحر المتوسط.
يُعتبر هذا الاقتراح مثيراً للجدل، لكن لا يتعلق هذا الجدل بالموضوع الخلافي حصراً. ستؤثر مقالة بيستوريوس التي صدرت في وقت غير مناسب في حملة «الحزب الديمقراطي الاشتراكي»، إذ من المنتظر أن تحصل الانتخابات الألمانية بعد خمسة أسابيع تقريباً. في النهاية، كان مرشّح الحزب لمنصب المستشار الألماني، مارتن شولز، يأمل بأن يستفيد من قضية اللاجئين للتشكيك في كفاءة المستشارة أنجيلا ميركل في هذا الملف. حتى أنه سافر إلى إيطاليا لنقل رسالة مهمة: فيما تمارس ميركل المشي مسافات طويلة في شمال إيطاليا، أنشغل أنا بمعالجة مشاكل أوروبا! لكن بسبب بيستوريوس، ربما لا تصيب هذه الرسالة هدفها. اليوم، لم تعد ميركل محط انتقاد بل دخل «الحزب الديمقراطي الاشتراكي» في هذه الدوامة الشائكة.
إعادة الاستقرار إلى ليبيا
بيستوريوس هو الخبير الأمني المحلي الخاص بشولز، لكن تشير مطالبته بإنشاء مخيمات في ليبيا إلى أنه يستوحي من برنامج المحافظين التابعين لميركل، وهو توجّه يتعارض صراحةً مع برنامج مرشّحي «الحزب الديمقراطي الاشتراكي». رداً على كلام بيستوريوس، صرّح شولز لصحيفة «شبيغل»: «أظنّ أن فتح مخيمات استقبال في ليبيا أمر غير قابل للتنفيذ راهناً. لإنشاء مخيمات مماثلة، لا بد من تأمين هياكل حكومية مقبولة لكن لا وجود لهياكل مماثلة في ليبيا. من الأفضل بحسب رأيي أن نتكلّم عن إعادة الاستقرار إلى ليبيا كدولة بحد ذاتها».لا يُعتبر الاقتراح الذي يدعو إلى إيقاف مسار المهاجرين في ليبيا والتأكد هناك من احتمال منحهم اللجوء في أوروبا أمراً جديداً بأي شكل. منذ أكثر من 10 سنوات، اقترح وزير الداخلية الاتحادي السابق أوتو شيلي الذي كان ينتمي بدوره إلى «الحزب الديمقراطي الاشتراكي» فكرة إنشاء مراكز لجوء في إفريقيا. كذلك طرح وزير الداخلية الراهن توماس دو مازيير، عضو في حزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» الذي ترأسه ميركل، اقتراحاً مشابهاً. اليوم، يُعتبر وزير الخارجية النمساوي المحافظ سيباستيان كورز أحد أبرز مؤيدي هذه الفكرة علماً بأن هذا الشاب الناجح يطمح إلى تولّي منصب المستشار النمساوي خلال الانتخابات المحلية في شهر أكتوبر المقبل.ظاهرياً تحمل هذه الفكرة بعض الإيجابيات. عبر أكثر من 94 ألف مهاجر ولاجئ البحر المتوسط باتجاه إيطاليا هذه السنة ومات 2221 شخصاً منهم على الأقل خلال تلك المحاولة. هذا الرقم أكبر بقليل من العدد الذي وصل خلال الفترة نفسها من السنة الماضية، لكن سئمت إيطاليا الآن من هذا الوضع.90% من الأشخاص الذين يصلون إلى إيطاليا مهاجرون اقتصاديون، ويتراجع احتمال حصولهم على حق اللجوء أو الاعتراف بهم كلاجئين. تُعتبر هذه الصفة شرطاً مسبقاً لتوزيع الناس على بلدان أخرى من الاتحاد الأوروبي. لكن تتحمّل إيطاليا وحدها مسؤولية المهاجرين الاقتصاديين، إذ تضطر روما إلى تأمين الطعام والمأوى لهم وإنهاء طلبات اللجوء التي يقدمونها.قطاع مربح
إذا تحدَّد مصير هؤلاء الأشخاص قبل مغادرة ليبيا، سترتاح إيطاليا بدرجة كبيرة. لن يضطر الاتحاد الأوروبي أيضاً إلى تولي الإجراءات الصعبة والعقيمة التي ترافق ترحيل المهاجرين إلى أوطانهم مجدداً.لكن من المستبعد أن تُطبَّق هذه المقاربة في أي وقت قريب. لا تبدو الاتفاقية المرتبطة باللاجئين مع ليبيا، كتلك التي عقدها الاتحاد الأوروبي مع تركيا، وشيكة رغم مطالبة المحافظين الألمان بإبرام اتفاقية مماثلة في مناسبات متكررة. في النهاية، لا تتمتع «حكومة الوفاق الوطني» برئاسة فايز السراج في ليبيا بأية صلاحية في أجزاء كبيرة من البلد مع أنها تحظى بدعم إيطاليا والاتحاد الأوروبي معاً.لا تقف المصاعب المطروحة عند هذا الحد. يبدو وضع المهاجرين في ليبيا خطيراً جداً. حذّر ممثل منظمة «أطباء بلا حدود» في شهادة له إزاء البرلمان الأوروبي في شهر أبريل الفائت: «يشكّل المهاجرون قطاعاً مربحاً في ليبيا. سيكون ضخ أموال إضافية في هذا النظام كفيلاً بزيادة الوضع سوءاً».يؤكد تقرير الاتحاد الأوروبي السري هذا التقييم. قال الليبيون الذين أجروا مقابلات مع دبلوماسيّي الاتحاد الأوروبي إن بعض المهاجرين محتجز في مخيمات غير رسمية إلى أن يدفع فدية. كذلك ذكر التقرير الذي صدر في منتصف أبريل الفائت: «كان المهاجرون يُباعون أحياناً بين مختلف المراكز».تقول ليبيا إن البعثة البحرية التابعة للاتحاد الأوروبي «صوفيا» كانت المسؤولة الأولى عن تصاعد أعداد المهاجرين. في المقام الأول تقضي مهمة سفن الاتحاد الأوروبي بمحاربة مهرّبي المهاجرين، كذلك تنقذ المهدَّدين بالغرق في البحار. لكنها بهذه الطريقة تسهم عن غير قصد في ترسيخ عمل مهرّبي المهاجرين لأن معظم اللاجئين يجد من يُقِلّه بعد أربع ساعات من الإبحار.«هلوسة عشوائية»
تريد إيطاليا من ليبيا أن تعوق مسار اللاجئين في المياه الساحلية وتعيدهم إلى البر. في بداية أغسطس الفائت، صادق البرلمان الإيطالي على قرار إرسال سفن حربية إلى ميناء طرابلس. وقالت وزيرة الدفاع الإيطالية روبرتا بينوتي إن تلك السفن تهدف إلى دعم الجهود الليبية الرامية إلى محاربة مهرّبي المهاجرين في المياه الساحلية المحلية، على أن تُطبَّق هذه الخطوة «بتعاون وثيق» مع المسؤولين الليبيين.تشعر إيطاليا بأن الاتحاد الأوروبي تخلّى عنها، وغضبت من الفرنسيين أيضاً بعدما طالب الرئيس إيمانويل ماكرون حديثاً بإنشاء مراكز لجوء على الأراضي الليبية. ورغم تراجع قصر الإليزيه عن دعم ذلك الاقتراح، يتابع وزير الخارجية الإيطالي أنجيلينو ألفانو انتقاد تلك «الهلوسة العشوائية» التي صدرت عن باريس.أصبحت المصالح الاقتصادية على المحك أيضاً وسط هذا الصراع. تتنافس شركة «إيني» الإيطالية مع شركة «مولتي توتال» الفرنسية على الغاز الطبيعي واحتياطيات النفط في ليبيا. ويسعى الإيطاليون، مثل بروكسل، إلى الاتكال على حكومة الوفاق الوطني برئاسة السراج. في غضون ذلك، يتابع الفرنسيون تواصلهم مع الجنرال خليفة حفتر الذي يسيطر على أهم ميناء ليبي للنفط الخام.لما كان الوضع في ليبيا معقداً جداً، فيدور النقاش راهناً حول اقتراح طُرِح أمام المفوضية الأوروبية في منتصف مايو الفائت من وزير الداخلية الألماني دو مازيير ونظيره الإيطالي. بدل احتجاز اللاجئين في ليبيا الغارقة في حرب أهلية، يظنّ الوزيران أن أفضل حلٍّ يقضي بإعاقة وصولهم إلى البلد منذ البداية. يؤيد دو مازيير نشر بعثة من الاتحاد الأوروبي لحماية حدود ليبيا الجنوبية.يخطِّط الاتحاد الأوروبي لإرسال بعثة أولية لتقصي الحقائق في نهاية الصيف، كما علمت صحيفة «دير شبيغل»، وستتولى تحديد أفضل طريقة تسمح لبعثة حماية الحدود المدنية «يوبام» بمساعدة ليبيا على حماية حدودها الجنوبية. كذلك خصصت بروكسل 46 مليون يورو لحماية الحدود الليبية.نريد أن نعود إلى ديارنا
يقول ديفيد ماكاليستر، عضو في «الحزب الديمقراطي المسيحي» المحافظ ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي: «لإنهاء حالات الموت في البحر المتوسط، يجب أن نمنع المهاجرين من الوصول إلى ليبيا منذ البداية».يوضح ماكاليستر أن الاتحاد الأوروبي سيدعم حكومة السراج في البداية عبر تقديم مساعدات تقنية مثل المروحيات والهواتف الفضائية: «حين تسمح الظروف القانونية والسياسية والأمنية في ليبيا، سيتولى الاتحاد الأوروبي دوراً أكثر فاعلية في البلد ويبدأ بوضع الخطط لنشر بعثة من الشرطة على حدود ليبيا الجنوبية».في الوقت نفسه، طرح ماكاليستر فكرة إنشاء مراكز لتسجيل المهاجرين، وهو يظنّ أن عودة الأشخاص الذين لن يحصلوا على حق اللجوء في أوروبا إلى أوطانهم يمكن تنظيمها بسهولة في النيجر وتشاد الساحليين، الأكثر استقراراً من ليبيا شمالاً. يؤيد توماس أوبرمان، رئيس كتلة «الحزب الديمقراطي الاشتراكي» في البرلمان الألماني، الفكرة نفسها، إذ طالب بإنشاء «شبكة من الأماكن الآمنة على طول طريق اللاجئين في إفريقيا» حيث يمكن التواصل مع اللاجئين وتقديم النصائح إليهم: «يجب أن نفصل بين مهرّبي المهاجرين واللاجئين».لكن لن تساعد هذه الأفكار الأشخاص المحتجزين راهناً في معسكرات الاعتقال الليبية، لا سيما أن عدداً كبيراً منهم يشعر بالندم الآن لأنه غادر وطنه للتوجه نحو الشمال، كما كتب دبلوماسيّو الاتحاد الأوروبي. مثلاً، قالت أستاذة كيمياء من نيجيريا حين سُئلت عما دفعها إلى ترك ثلاثة أولاد في بلدها للإبحار في رحلة خطيرة: «أظنّ أننا شعرنا بالارتباك. نريد أن نعود إلى ديارنا».من الواضح أن الإقامة المطوّلة في ليبيا تكفي للقضاء على الحلم الذي راود كثيرين بالوصول إلى أوروبا.