لعل في مشهد وفاة وعزاء الفنان عبدالحسين عبدالرضا، وما أظهره من التفاف اجتماعي وإنساني أصيل، ما يعود بنا إلى تساؤلات مستحقة حول دور الفن في صياغة وجدان الأمة أولاً، وثانياً دوره في تشكيل هويتها المحلية، التي قد تعبُر بها نحو آفاق أرحب كلما ازداد هذا الفن أصالة وصدقاً.

كشف لنا رحيل عبدالحسين عبدالرضا أن التعلق بالفن فطرة إنسانية، وإحدى الحاجات الضرورية للإنسان السوي، وان تداخلها في حياته ومعاشه من البدهيات التي تبقي على هذه السوية وتحدث التوازن المطلوب. وقد يُظن أن الانشغال بهموم الواقع السياسي والاجتماعي الفجّ هو أسّ الحياة، فتأتي حادثة موت فنان أصيل، لتوقظ فينا الجانب الألصق بإنسانيتنا ووجداننا الجمعي.

Ad

وهكذا نتيقن أن الفنون والآداب هي ما يجب المراهنة عليها لبقاء الأمة ونمائها وتحديد ملامحها الفارقة، وأن الهوية الوطنية تتأسس عبر تلك الجهود البشرية التي تتراكم على مهل وصبر وإتقان وحبّ، لترسم في النهاية تلك الملامح الفارقة لنا ولمجتمعنا وخصوصيته. أما الأبراج الشاهقة والطرق السريعة والمولات التجارية والحدائق العامة، فهي رتوش الحضارة وهوامشها وبعض ألقها المادي لا غير.

الجميل في إرث عبدالحسين عبدالرضا أنه لم يؤسس لنا هوية وطنية فقط، بل كان قادراً، بأصالته وصدقه، أن يعبُر بهويتنا الحدود، ليؤثر في المحيط الإقليمي الأقرب والأبعد، فيرثيه المحبون والمريدون من كل حدب وصوب، ويرون فيه معلماً ورائداً وأيقونة للفن والسعادة، وينبوعاً لضحكات لا تنفد.

الميزة الأخرى في هذا الإرث الفني، أنه يصدر عن حب لممارسة الفن، وشغف بتفاصيله وحيثياته، وصبر على متاعبه ومشاقه، وأناة في قطف ثماره، التي لا تأتي أكلها إلا بعد ردح من العمر والكدح. وكلها صفات لا تجدها إلا لدى أولئك الذين نذروا أنفسهم لما يحبون بحق، ومارسوه بتلقائية وعفوية تقتربان من الفطرة، ولم ينتظروا من ورائه جزاءً ولا شكوراً.

يُقال إن أعظم الكتب والمؤلفات هي تلك التي لا تأتي بما يخرق المألوف من الأفكار، إنما تقول من يُحاك في النفوس والعقول، لكن بأسلوب فذّ وعرض مبدع، وهذا بالضبط ما فعله فن عبدالحسين عبدالرضا، حين حاكى ما في نفوسنا من هواجس، وترجم ما في صدورنا من هموم، ثم وسم ذلك بميسمه الفريد، وبكوميديا لاذعة حيناً، وانبساطية حيناً، ومتخمة بالإشارات أحياناً أخرى، لكنها في كل الأحايين مثيرة لبهجات وضحكات تستجلب الشفاء والتطهّر.

ولا يبقى إلا التأكيد على ضرورة وضع استراتيجيات وخطط للنهوض بأدوات الحضارة الحقة، وهي الفنون والآداب، والعناية بمبدعيها وصنّاعها، وتكريس الجهود لبناء أدواتها وصروحها، والإيمان بأنها رهاننا الأجمل والأغلى حين تباهي الأمم بثقافتها وتاريخها.