عائد إلى الحياة
تجربة مرض كالسرطان مؤلمة، ليست على المريض فقط، بل على المحيطين به، مرض يشي بالوداع الأخير للحياة الدنيا، فينمو حولك القلق المستمر، بأن هناك نهاية دون موعد. قلق تراه في عيون أطفالك، الذين لم يستوعبوا بعد أن فقدك هو قدر حتمي ذات يوم، قلق أسرتك التي تعيش غربتها بك وتفكر في اغترابها بعدك. والأكثر ضراوة، هو قلقك أنت، وشعورك بأن كل قرار اتخذته بحق نفسك وحقهم هو قرار صائب تماما، وبعيد عن الصواب في الوقت ذاته. تفكر بالمكان الذي قررت العيش فيه وانتمائك للثلج المتساقط خلف نافذة غرفتك في المستشفى، في المكان الذي غادرته قبل زمن يمتد شيئا فشيئا في النسيان وانتمائك الحقيقي إليه. تفكر في اللغة التي هربت إليها وأمضيت زمنا من عمرك القصير تتعلمها؛ أدبا ورواية وشعرا، وتحجم عن الانتماء إليها، دفاعا عن تاريخك ولغتك الأم وشعبك البسيط المهمش الذي تركته خلفك. تفكر في الزمان المترنح بين الأمس واليوم، في البداية التي عشتها، ونضالك نحو تحقيق ذاتك، ويأسك من وطنك، وخروجك لمنفاك الاختياري، مقررا ألا تنظر إلى الخلف.
تسير حياتك الآن أمامك وأنت تنظر إليها دون أن تملك القدرة على المشاركة فيها. عليك أن تقف في زاوية ثابتة سيتحدد بعدها مصيرك، إما أن تدخل ضجيج الحياة مرة أخرى، أو تودعها إلى الأبد. زاوية تمنحك فرصة أن تتأمل فقط، ولا تتدخل في شيء. سألني الجراح في العملية الأولى "هل تريد معرفة نسبة نجاح عمليتك؟"، قلت "لا، لا يهم الآن"، ضغط بخفة على يدي وقال "ستعيش أكثر من عمري". حين تذهب وأنت خارج الوعي بوجودك لا تدرك ما الذي يحدث بعدك. تلك ميزة جيدة لجهاز التخدير وهو يعلقك بين الإفاقة والإغماءة الأبدية. حين صحوت عرفت أنني مازلت هنا قريبا من هذا الضجيج. كانت مهمة الطب أن يقاتل مع جسدك ضد النهاية، ومهمتك أن تقاتل بروحك أولا وجسدك ثانيا مع الطب ضد نهايتك. سألني ذات السؤال في العملية الثانية ولم أجب، ربت على كتفي وسبقني إلى غرفة العمليات. كان الصراع الأكبر هو ما بعد ذلك. جلسات العلاج الكيماوي والتهديد بعودة الداء السرطاني مرة أخرى. مرَّ على ذلك ثمانية أشهر من الألم، وتعطل الجسد والعقل عن عمل الأشياء البسيطة الممكنة. كنت أفكر في روايتي التي أهملتها، وبالمشاريع التي خططت لها في المستقبل، أحاول أن أجبر نفسي على الكتابة وأفشل، وكأنني أحاول أن أجبر نفسي على الحياة وأفشل. في الأسبوع الماضي كان الفحص الأخير، والذي أعلن فيه الطبيب المعالج خلو جسدي من السرطان، والاكتفاء بالفحص الدوري، وكأنه يخبرني بأنه بإمكاني العودة مرة أخرى للضجيج. يخرجني من زاوية الانتظار الزمني إلى دائرة الزمن. يعيدني إلى الحياة التي راقبتها زمنا من بعيد وأنا أرى أصدقاء كثرا مخلصين لم يخذلوا صداقتي وأصدقاء قلة ابتعدوا كمن ينتظر نهاية الصراع. كنت أرى من الزاوية كل هذه القلوب الطيبة التي تحيط بي، وأعرف أنني رجل محظوظ سيعود للحياة بقلوب أحبابه. ولا أملك لهم سوى الشكر بحجم الكون، فلم تدرّ عليَّ الكتابة سوى هذا الحب الذي لا يعادله شيء.