الضعف في باكستان ثمن الاستقلال
ثمة واقع ثابت واحد في جنوب آسيا منذ نهاية الاستعمار البريطاني في هذه المنطقة عام 1947: المنافسة المرة بين الهند وباكستان، فقد كان انقسام الهند البريطانية إلى باكستان ذات الغالبية المسلمة التي تقوم على الدين والهند ذات الغالبية الهندوسية التي تقوم على العلمانية تطوراً محتماً بالتأكيد، وحتى شهر يونيو عام 1946 (قبل 14 شهراً من الانفصال)، كانت الحركات الوطنية التي تمثل المجموعتين تطمح إلى بناء بنية سياسية متطورة في دولة موحدة، وكان المؤتمر الوطني الهندي يقود الجهود الرامية إلى تأسيس دولة علمانية موحدة، أما العصبة الإسلامية فكانت في طليعة الداعين إلى الانفصال الإسلامي.لكن الفريقين عجزا عن الاتفاق على توزيع السلطات أو علامَ يحصل كل منهما. تمسكت العصبة الإسلامية بموقفها الرافض للهند الموحدة والمؤيد لتأسيس دولة باكستان المستقلة في حال لم يتوصل الطرفان إلى إطار عمل يمنح المسلمين مكانة خاصة في الهند بعد الاستعمار البريطاني، فقد خشيت حركة محمد علي جناح أن تتعرض الأقلية المسلمة في الهند، في ظل غياب اتفاق مماثل، للقمع على يد الغالبية الهندوسية.لكن هذه الحملة خرجت عن السيطرة، وخصوصاً بعد انهيار المحادثات، فنمت أكثر مما خططت له جناح وحزبه، مما أرغمهما في النهاية على مجاراتها.
في تلك المرحلة ترسخ عدم التوازن والخصومة بين الفريقين، فلم تستطع باكستان يوماً التخلص من إحساسها بالضعف لمجاورتها دولة الهند التي تفوقها حجماً بأشواط، وما زاد الطين بلة إبقاء البريطانيين منطقة كشمير خارج خطة الانفصال، مما أشعل الحرب الأولى بين الهند وباكستان عام 1948. سيطرت الهند على ثلثي تلك المنطقة، فتحولت هذه الخطوة إلى محور الخصومة بين البلدين منذ ذلك الحين، وخلال الحرب الأهلية الباكستانية في عام 1971 تدخلت الهند واقتطعت جزءاً من شرق باكستان، منشئةً دولة بنغلادش، فعزز ذلك الرواية في باكستان بأن الهند تريد إلغاء الانفصال وإعادة توحيد البلدين تحت حكم واحد. كما لو أن الأوضاع لم تبلغ الحد الكافي من السوء، كان على باكستان أيضاً حماية أراضيها الغربية، فحتى عام 1992 كانت جارة باكستان الغربية، أفغانستان، دولة قوية نسبياً جمعتها بباكستان تاريخياً علاقات عدائية، وقد شكّل ذلك عاملاً أساسياً في حماسة إسلام أباد للمشاركة في الجهود الأميركية-السعودية المشتركة لمقاومة الجنود السوفيات الذين تدخلوا في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، فقيام حكومة موالية للهند في كابول يعني محاصرة باكستان، وبمساعدة الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، حاربت باكستان بسلاحها الأكثر خطورة: المقاتلين الإسلاميين. لكن دعم المجاهدين في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي لم يؤدِّ إلى النتيجة المرجوة، لذلك حوّلت باكستان في التسعينيات دعمها لقوة جهادية جديدة: طالبان، إلا أن هذه السياسة أدت أيضاً إلى نتائج عكسية في 11 سبتمبر عام 2001 حين هاجم تنظيم القاعدة الولايات المتحدة، فأطاح رد واشنطن السريع بالنظام، وهكذا صارت فجأة فصائل أكثر قرباً من الهند مسيطرة في كابول.لا تستطيع باكستان القبول بحكومة موالية للهند في كابول، لكن الخيار البديل (إعادة طالبان والمجاهدين إلى السلطة) لا يقل خطورة، وقد تعلّمت باكستان من العقدين الماضيين أن قدرتها على التحكم في حركة طالبان أقل مما ظنت، إلا أنها لا تستطيع أيضاً البقاء على الهامش. تُعتبر الولايات المتحدة مصدر المساعدة المالية والعسكرية الرئيس في باكستان، وفي أفغانستان تجد الولايات المتحدة نفسها في حرب لا نهاية لها، علاوة على ذلك تدفع العمليات الأميركية في أفغانستان المجاهدين غالباً عبر الحدود إلى باكستان، كما تريد واشنطن اليوم الخروج من هذه الحرب، ولا يمكنها تحقيق ذلك من دون تعاون باكستان، لكن حركة طالبان تدرك أن الولايات المتحدة ترغب في الانسحاب، وتعي أنها تنتصر. لذلك لا تملك هذه الحركة بعد أي حافز يدفعها إلى الجلوس إلى الطاولة، وحتى عندما تجلس إليها لن يكون التفاوض معها سهلاً.من الصعب تحديد التفاهم الذي قد تتوصل إليه الولايات المتحدة وباكستان، ولا نعرف حتى ما إذا كانتا قادرتين على الاتفاق على استراتيجية متماسكة، نظراً إلى تباعد مصالحهما، فمن وجهة نظر باكستان يستطيع الأميركيون بكل سهولة حمل متاعهم والرحيل، وعندما يغادرون يبقى على باكستان أن تتأقلم مع الحياة في ظل الهند.