المقبرة تفرقنا!
خطيئة كبيرة وقعت بها صحيفة كويتية خدشت معها مصداقيتها التاريخية كإحدى ركائز الصحافة الوطنية، وطالما كان الكويتيون يعتبرونها صمام أمان للديمقراطية كونها من القلة الباقية في عالم الإعلام الحر عندما كانت تتعالى على الاختلافات والفوارق المبنية على خصوصيات مكونات مجتمعنا الكويتي، فكانت البلسم الذي يخفف الجروح التي يتسبب فيها غيرها، بل كانت الصحيفة التي تجمع الكل تحت مظلة القضايا والمكتسبات الوطنية والدستورية والتصدي للفساد والحفاظ على المال العام، فكانت الطائفية الممقوتة آخر ما نفكر فيه على صفحاتها، ولكن يا حيف وهي تركب هذه الموجة البائسة! «المقبرة توحدنا» كان عنواناً صادماً في افتتاحية الصحيفة، وفي مناسبة أغرقت البلد ومن فيه في بحر من الحزن لكنها جمعتهم في محبة فقيدها فاختفت الأنفاس الطائفية ولو مؤقتاً كالعادة، لكن عنوان «المقبرة توحدنا» شوه هذا المعنى الجميل، إذ لم يكتف مضمونه بالهمز واللمز الطائفي، بل تطاول بشكل فاضح وقبيح على عقيدة شريحة من المواطنين بناءً على خبر مرسل كان الأجدر التحقق من صحته، رغم الحق المطلق لأي إنسان أن يختار مكان قبره ولا شأن للآخرين بالتطفل في هذا الخصوص مطلقاً!
غضبنا على هذا الموقف اللا مسؤول يعود إلى كون الصحافة مرآة لقيم الديمقراطية ومصداقيتها خصوصاً في احترام عقائد الغير، وانحياز الصحافة بهذه الطريقة المشينة بالتأكيد يشوه مبادئ الديمقراطية، كما أن الصحافة بحكم انتشارها الواسع تساهم في خلق الرأي العام وتوجيهه، والحالة الراهنة في مجتمعنا يكفيها الفرقة والتشنج لأن نسكب المزيد من الزيت على نيرانها، الأمر الذي يثير تساؤلات جمة حول هذا التحوّل المفاجئ والمتناقض في نهج الصحيفة وتاريخها الطويل!لكل من تسوّل نفسه الاصطياد بالماء العكر نقول إن المقبرة هي المكان الوحيد الذي يفرّقنا ولا يجمعنا، فالقبر هو المقر الأبدي الذي يقطع صلة المسجى فيه مع الدنيا وما فيها ليكون بين يدي ربه فقط، والقبر يمثل الحالة الإجبارية للفرقة بين الزوج وزوجه والأب وابنه والأخ وأخيه وبين أعز الناس وأقربهم، في حين دار الدنيا هي التي يجب أن تجمع وتقرب، حري بنا أن نحرص على هذا الوجود بروح التسامح والوئام والعيش المشترك تحت كنف مجتمع واحد وفي ظل مرجعية قانونية بلا تمييز أو مفاضلة، مصداقاً لقوله تعالى «إنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»، فالتعارف والتواصل بين الأحياء لا الأموات!المقابر في جميع الثقافات والأعراف الإنسانية، قديماً وحديثاً، لها خصوصيتها، حيث يدفن الموتى وفق معتقدهم الديني بل تنتشر في العديد من المجتمعات ما يعرف بمقبرة العائلة، ويحمل تراثنا الكويتي مقابر للسنة والشيعة والنصارى واليهود، وحتى الجنود الذين تختلط دماؤهم في جبهات الحرب تفترق أبدانهم في قبورهم المختلفة.لا خير فينا على الإطلاق إذا لم توحدنا الدنيا في وطن ارتضيناه لنا جميعاً ونحن أحياء، وكفى تشدقاً بأن نتوحد في مقبرته الخاصة بعدما نموت، فهذه دعوة سخيفة، أجزم بعدم جرأة قائلها أن يطالب بعكسها، لأنها لا تحمل سوى نزعة نفسية مريضة طارئة، نسأل الله أن يقينا شرها قبل أن نموت!!