قليل من التنوير كثير من العنف
لم يكن ظهور تنظيم «داعش» (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام)، إلا تطوراً طبيعياً لحركات الإسلام السياسي التي ظهرت وتطورت بأشكال مختلفة طوال القرن الماضي، ولم يكن هذا التطور من فراغ، بل جاء مصحوباً باستراتيجيات وأفكار جهادية سلفية، بعضها قادم من بطون كتب التراث، وبعضها الآخر مكتوب ليرصد اللحظة الراهنة، وتطور الفكرة الجهادية.حرصت كل جماعة من تلك الجماعات الراديكالية منذ بداية ظهورها على أن يكون لديها دستورها الخاص، وفقيهها الذي يكيف لها الأحكام الفقهية حسبما تقتضي الحالة، وتحتاج الجماعة، كما صاحب كل جماعة كتاب لأحد قادتها يمكن اعتباره المؤشر على اتجاه العنف في تلك المرحلة، ويرسم في الآن ذاته تطور الإسلام السياسي من مجرد خروج على الحاكم إلى حلم بإقامة دولة خلافة، وهو الحلم الذي لم يفارق- في الحقيقة- أي تنظيم من تلك التنظيمات.يمكن القول إذاً إن الفكر الجهادي استطاع أن يطور نفسه على مدار السنوات الماضية نحو مزيد من الدموية والعنف، ومن خلال كتبه سنلاحظ ذلك، لكن في المقابل، لنا أن نسأل ماذا قدمت النخب العربية خلال تلك المرحلة؟ هل استطاع رواد التنوير أن يقفوا في وجه قادة الظلام والجهل، هل استطاعوا تقديم أفكار تجابه ما قدمه مؤلفو كتب الجهاد، التي تجتذب الآلاف لقراءتها يومياً، سواء كانت مطبوعة أو على الإنترنت، أو حتى من فوق منابر المساجد؟ هل استطاع المثقفون العرب تقديم نظرية حديثة للتنوير خلال تلك السنوات؟
إن الملاحظ هو أن العالم العربي يتحدث منذ أكثر من عقدين من الزمان عن أهمية تجديد الخطاب الديني، دون أن يأخذ خطوة جدية باتجاه هذا الطريق، حتى بدا كأنه مصطلح غامض لا يستطيع أحد فكه، لا النخبة الثقافية ولا حتى المؤسسات الدينية الرسمية ولا الجامعات. لم يقدم أحد من رواد التنوير العرب، ما يمكن الرد به على كتب الجهاديين التي تتطور يوماً بعد يوم إلى تبرير سفك مزيد من الدماء، بل تجتاز الحدود إلى الدول الأخرى، لتؤكد انتصار الإرهاب، وانتصار أفكار الجهاديين يوماً بعد الآخر.بل إن التطور في "الفكر الجهادي" ليس فقط في دساتير العنف، وكتبهم التي ينظّرون فيها لأفكارهم، بل في استخدامهم للتكنولوجيا، وآليات تكنولوجيا العصر، واستخدامهم وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع أفراده حول العالم، بل إن نظرة سريعة على مقاطع الفيديو التي ينتجها تنظيم "داعش" للترويج لجرائمه، أو لتحفيز أفراده تكشف مدى تمكنه من استخدام أحدث وسائل التصوير والمونتاج، وهو بالمقارنة برسائل تنظيم القاعدة قفزة كبيرة للأمام.استطاع تنظيم "داعش" أن يطبق فكرة العولمة بمعناها "العالم قرية صغيرة"، فأصبح يحرك مجاهديه، في فرنسا وبروكسل وألمانيا، أصبح ينفذ تفجيراته ويرهب العالم عن بعد، بل لم يعد بحاجة إلى طرق تجنيد القواعد القديمة، بعد أن أصبح يستخدم الإنترنت، وأصبح يصل إلى داخل كل بيت، فتحولت ذئابه المنفردة إلى رعب يطارد كل الأنظمة السياسية في العالم.لكن في مقابل كل هذا التطور في الفكر والأدوات الجهادية، ماذا قدمت النخبة العربية؟ لدينا الكثير من المراكز البحثية، والكثير من حلقات النقاش، والكثير من الدراسات والكتب، لكن شيئاً من هذه الكتب لم يدخل في صدام مباشر مع هذه الأفكار، بل يمكن القول إنها لم تصل إلى المستهدفين، الذين تصلهم رسائل الجماعات الجهادية بشكل أسرع.يمكن توجيه اللوم للمؤسسات الرسمية، والدول، وللوزارات، لكن الحقيقة هي أن هناك بوناً شاسعاً بين أبراج عاجية، وقاعات مكيفة تجلس فيها النخبة لتتحدث عن التنوير وعن أهمية تجديد الخطاب الديني، وبين آلاف "المؤمنين" بأفكار التيارات الجهادية، ممن يقفون كل يوم خمس مرات في المساجد، عقب الصلوات ليتحدثوا عن الجهاد إلى ملايين المواطنين المسلمين.