هذه هي المرة الثانية التي أزور فيها مدينة بيزارو الإيطالية، على الأدرياتك. المدينة التي تسمى «مدينة الموسيقى»، بفضل أحد أبنائها جيوتشينو روسّيني. الدعوة من مهرجان روسّيني، ولثلاثة أيام، ربما كانت كافية للمدينة التاريخية الصغيرة، لكنها ليست كافية بالتأكيد للتشبع من حلاوة موسيقى روسّيني (1792-1868).

لي أن انتخب ثلاث أوبرات لثلاث ليالٍ، فاخترت أعمالا مبكرة: «حصار كورينثي»، «حجر المحك»، و«تورفالدو ودورلسكا». الأوبرا الأولى تراجيديا، والثانية كوميديا، والأخيرة تراجيكوميديا. والثلاث من الأعمال المبكرة. وروسّيني، الذي كان يُدعى «موتسارت الإيطالي»، موهبة استثنائية كموتسارت النمساوي، وموسيقاه محببة للنفس، ومحببة لحاسة الجمال كموتسارت. لقد سبق وتحدثت، قبل سنوات ثلاث في عمودي هذا، عن المدينة وعن المهرجان الذي يُقام في كل أغسطس، لكن سحر الساحل الأدرياتيكي، وأصالة المهرجان، يستحقان حديثاً إضافياً.

Ad

الفندق الذي أقمتُ به يطل على البحر، وحرارة شهر أغسطس معتدلة، والناس أنصاف عراة قادمون من ساحل البحر، أو باتجاه ساحل البحر. ومن باب الفندق يبدأ شارع المشاة الذي يقطع قلب المدينة القديمة، حتى يصل إلى مبنى دار أوبرا روسيني Teatro Rossini، الذي بُني عام 1760. المطاعم والمقاهي والنَّاس مُكللة جميعاً بهالة الموسيقي الكبير؛ بوسترات، باجات، أدوات زينة واستخدام، منحوتات على قدر مذاق السياح، أمواج موسيقى في الهواء من افتتاحيات وآريات (أغانٍ) مُنتخبة من أوبراته، يُحسن الإيطالي ترديدها عن ظهر قلب.

موسيقى روسيني شعبية بالمعنى الرفيع، لأن كل لحن فيها أغنية يمكن أن تحفظ، و«لأنها تأخذهم كما يأخذهم مُخدر النشوات المُستثيرة، أو كؤوس الشمبانيا» على حد تعبير «تاريخ أوكسفورد للموسيقى الغربية». كانت غزارته في التأليف مبكرة، بدأت وهو في الثامنة عشرة. وفي غضون 19 سنة وضع 39 أوبرا، ثم تقاعد بعدها عن التأليف في هذا الفن، إثر متاعب صحية، ثم حين استعاد عافيته انصرف إلى فنون الآلات الموسيقية، وفنون الكورال، فوضع أعمالاً أثيرة على قلوب محبيه.

أكثر من مكان في بيزارو يتناوب على تقديم أعماله، لكن مبنى «مسرح روسيني» ومبنى «أدرياتك آرينا» هما عماد عروض «مهرجان روسيني». الأول تاريخي، كما قلت، والثاني حديث بالغ الضخامة، يتسع لقرابة 13 ألف مشاهد. على أن عروض الأوبرا التي شاهدت تكتفي بقدر من مساحة البهو، قد يتسع لقرابة 3 آلاف مشاهد، ويشكل دعماً مالياً لميزانية المهرجان.

شاهدت عملين في الآرينا، هما «حصار كورِنْثة» و»حجر المحك». وكان إخراجهما بالغ الضخامة، صُبت فيه كل براعات الفن الإيطالي المعروفة. ولأن المسرح بدوره عظيم الاتساع، فقد شاء مخرج العمل الأول أن يأخذ حريته تشكيلياً، حتى لترى المسرح لوحات تشكيلية بالغة التأثير تتناوب دون توقف، الأمر الذي قزّم من حضور الشخوص، حتى صار واحدهم يتماهى، في عين المُشاهد، مع الكتل والفضاءات اللونية. كذلك، شاء مخرج العمل الثاني أن يأخذ حريته معمارياً. فأنت أمام ديكور مبنى بارع التصميم، كثير السلالم، كثير الغرف، كثير الشرفات، ولا يخلو من مسبح ومياه وسابحين.

حالة من الإدهاش تأخذ بك في أحيان كثيرة بعيداً عن الموسيقى، من آلاتٍ وحناجر، وهي جوهر فن الأوبرا، رغم أنها تملأ فيك تطلعَ حاسة الجمال البصري، الأمر الذي لم يُشعرني بالارتياح.

حين شاهدت العمل الثالث (تورفالدو ودورلسكا) في «مسرح روسّيني» المدور البهو، الكلاسيكي العمارة، الحميمي، الذي لا يتسع لأكثر من 800 مُشاهد، كنتُ أكثر ارتياحاً، بفعل هيمنة مُطمئنة على المَشاهد، بكل ما فيها من شخوص وديكور.