فن التخلي لعبدالله ناصر
هذه مجموعة من القصص القصيرة التي حافظت على صوت راويها وثبات مستواها الفني واللغوي على مدى مئة صفحة تقريبا. هذه النصوص العربية اللغة العالمية التقنية والفكر، هي امتداد لانفعالات ناتالي ساروتي وليديا ديفيز، والتي كانت تُعرف بـ flash fiction، قبل أن يستخدم مصطلح القصة القصيرة جدا، وربما الأقصر والأكثر شهرة، هي القصة ذات الست كلمات "للبيع، حذاء طفل، لم يستخدم أبدا".يعرف كاتبها عبدالله ناصر حرفته ويديرها بمهارة صادمة يبهرنا بهذه القدرة على أنسنة الأشياء، وبث الحياة في الجماد والأشجار، مبتعدا عن المكانية التي ينتمي إليها، شاغلا ذهنه المعرفي بالإنسان وبالإنسان فقط. في الإهداء يختار القاص عبدالله ناصر قاصا من زاوية بعيدة في العالم، هو ماريو بينديتي، الذي عاش حياة مشردة بين بلاده الأوروغواي والأرجنتين ثم إسبانيا. الإهداء جاء مقصودا لتأثيث ذهن القارئ بالرسالة الأولى، وهي أنك أمام نصوص تحتاج إلى معرفة إنسانية شاملة وعميقة، للتمكن من فك رموزها، وهي رموز لا تنتمي للغة التي كتبت بها النصوص، ولا لهوية الكاتب العربية.
يأخذنا النص الأول (موسيقى تصويرية)، لنتعرف على شخصية الراوي التي تدير دفة السرد، والشخصية التي ينوب عنها في تناول مصيرها القصير، مستخدما تقنية سرد "الشخص الثالث" (third person)، وهي تقنية مريحة، توحي بأن الشخصية التي يتناولها قد تكون الراوي أو الكاتب أو أنا وربما أنت. فلا تتفاعل معها كبطل روائي قدر تفاعلك الداخلي بأنك معني بشكل أو بآخر. تصدمك الجملة الأخيرة كعاصفة صغيرة تدير ذهنك بعيدا عن النص "يفكر الآن بأن الموسيقى التصويرية لهذا اليوم تبدو صامتة بلا حركة، فيصطخب قلبه، لأنها عندما تتوقف في عروض السينما بالعادة تكون الفاجعة على وشك الحدوث".سيلاحظ القارئ العادي والناقد أن الكاتب حاول الابتعاد عن كل إشارة ثقافية إلى رمز عربي، مستعينا بثقافة أجنبية ربما توقف جمالية التفاعل مع النص، ويتملك هذا القارئ شعور بالاغتراب، وكأنه أمام نص مترجم عليه أن يجتهد لفك هذه الرموز والإشارات التي حملها النص. تلك قد تكون معضلة أمام القارئ الذي ليس علينا مطالبته بأن يتفاعل مع تلك الإشارات المستوردة من ثقافات أخرى. في نص لا مبالاة نقرأ "لا شيء يعيد ابتسامته حتى ألوان آندي وارهول". وآندي وارهول ليس اسما في الثقافة المنقولة للغة العربية، كما في الثقافة الأميركية، حين ارتبط اسمه بالإعلانات التجارية لمنتجات كامبل وكوكاكولا، قبل أن يقدم مجموعة من الأفلام، منها فرانكنشتاين ودراكولا. ويتكرر ذلك في نص كحول "أو على أقل تقدير ليعزف بمناسبة الذكرى العشرين لوفاة بيكر". وعلى القارئ أن يبحث عن بيكر هذا الاسم المفرد، فلا تمنحه القصة القصيرة جدا مساحة ليربط بين علاقة الترومبيت وتشيسني بيكر عازف الجاز. على الأغلب سيتجاوز القارئ العربي هذه الأسماء، التي لا تمثل انعطافات مهمة في ثقافتة، والوضع يختلف لو تناول الكاتب أسماء مبدعين عرب، بدلا من هروبه الكامل إلى الآخر. بعض هذه النصوص الأجنبية والمكتوبة بالعربية خفضت وتيرة النشاط الفني الذي بدأت به المجموعة، كما في نص السفر خارج هوليوود. "يسافر على متن القطار الذي لن يعترضه أحد الخارجين على القانون، ولن يقوم بسرقته بوتش وكاسيدي، ولن يفرّا إلى صحاري بوليفيا" بوتش كاسيدي اسم لشخص واحد، وهو سارق بنوك وقطارات مشهور، أما زميله الآخر، فهو سندانس كد. تستحق هذه المجموعة أن تعتبر إضافة حقيقية للقصة القصيرة في الثقافة العربية والعالمية وعملا جديرا بالقراءة والإشادة.