ما قــل ودل: تراجع الفكر الوحدوي والقومي العربي
لا يستهدف مسلسل ترامب وثقافته ضد الآخر، الدول الأخرى وحدها، بل كذلك الآخر في الولايات المتحدة ذاتها؛ فقد توعد الأعراق الأخرى في المجتمع الأميركي خلال حملته الانتخابية بالإقصاء، وجاء تصريحه حول هذه الأحداث منسجماً ومتوافقاً مع هذا الإقصاء، عندما وجه بعض اللوم إلى تظاهرة سلمية مناهضة للعنصرية تعرضت لدهس بالسيارة من النازيين الجدد في أميركا، فساوى بينهم وبين النازيين الجدد، بلومه الطرفين.
ضياع الحلم العربيالوحدة العربية حقيقة أم سراب مع ثقافة "رفض الآخر"؟ كان هذا هو العنوان الذي اتخذته لمقالي المنشور على هذه الصفحة الأحد الماضي، والذي تطرقت فيه إلى فشل وحدة مصر وسورية، وهي التجربة الأولى للوحدة العربية في التاريخ الحديث، رغم كل المقومات التي توحد شعوب هذه الأمة من الدين والقومية واللغة، وكيف توحدت أوروبا رغم غياب هذه المقومات، بالتحول الديمقراطي وبالسوق الأوروبية المشتركة.
وتطرقت في آخر المقال إلى انحسار الفكر الوحدوي والقومي العربي بعد نكسة 1967 التي قصمت ظهر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قبل أن تحمل نعشه الملايين من الجماهير العربية في سبتمبر 1971 في أكبر تظاهرة في العالم كله، حيث كانت هذه الجماهير لايزال يراودها حلم الوحدة العربية، غير أن ما يتهدد الوطن العربي الآن ليس ضياع هذا الحلم، ولكنه الخطر الأكبر الذي يهدد الوحدة الوطنية في كل قطر من أقطارنا العربية، والذي جعلني أختار عنوان مقالي هذا الأسبوع.وقد كان ضياع الحلم العربي أحد أسباب كل الحركات الانفصالية في كل قطر عربي، سواء بالانقسام الطائفي في العراق بين سُنة وشيعة وأكراد، أو الانقسام ذاته في اليمن بين سُنة وشيعة، وفي سورية بين سُنة وشيعة كذلك، فضلاً عن انقسام آخر بين السُّنة أنفسهم، و"داعش" الذي يمثل الخطر الأكبر على الوحدة الوطنية في سورية وليبيا والعراق وكل أقطار الوطن العربي. وكانت الأحداث المتلاحقة، التي أشرنا إليها في مقالنا الأحد الماضي، قد ساهمت في تراجع الفكر الوحدوي والقومي العربي، إلا أن سببين رئيسيين، أغفلهما البعض هما غياب الاقتصاد عن هذا الفكر وبطء أو انعدام التحول الديمقراطي في بعض الدول.الاقتصاد وأهميته في العالم المعاصر والواقع أن الاقتصاد قد أصبح في عالمنا المعاصر هو العامل الأهم والأكثر والأخطر في حياة الأمم والشعوب، وهو أساس وحدتها بعد أن أصبح الصراع العالمي صراعاً حول مصادر المياه والطاقة، والتحدي الأكبر أمام الدول النامية هو التصدي لهيمنة الشركات العالمية العملاقة المتعددة الجنسيات على اقتصاد العالم، وكان من تداعياته ظاهرة العولمة والجات، والجوع الذي يهدد قارة بأكملها هي إفريقيا لشح المياه ومصادر الطاقة، حتى أصبح يهدد شمال هذه القارة بما فيها مصر، التي يتهددها الآن سد النهضة الذي تقيمه إثيوبيا على أراضيها، والذي من شأنه أن يهدد مصر بالجفاف والجوع، لتذهب مع أدراج الرياح مقولة هيرودوت "مصر هبة النيل"، وليتقلص ويتلاشى دور مصر، وهي العمود الفقري للوحدة العربية. ظاهرة ترامبوهي ليست ظاهرة جديدة في عالمنا المعاصر، وقد أفرزتها العولمة وحماية المصالح الاقتصادية للشركات الأميركية العملاقة، صاحبة الامتيازات والاحتكارات في العالم كله واليمين المتطرف الأميركي، فأفرز المجمع الانتخابي والمجتمع الأميركي في تطوره لحماية هذه المصالح رئيسا جديدا، لا يتشح بعباءة العالم الحر الذي تزعمته الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كانت تمد أنظمة الحكم فيه بالمال لضمان بقائها في الحكم لمواجهة الخطر الشيوعي، أو يتشح بعباءة التحول الديمقراطي والفوضى الخلاقة التي نادت بها كونداليزا رايس بل بعباءة حقيقية غير مصطنعة هي عباءة حماية مصالح هذه الشركات، هو تغيير في التكتيك وليس تغييراً في استراتيجية هذه الحماية، إلا أن الرئيس ترامب، كان مباشراً وصريحاً وواضحاً، فهو ليس كغيره من الرؤساء، فخبرته السياسية كما أجمع على ذلك المحللون السياسيون، لم تتح له النضج الكافي، ليرتدي عباءة أخرى غير تلك التي يعرفها هو وأسرته، كرجل أعمال ومالك لأكبر شركات في أميركا.فضاعت هيبة الرئيس الأميركي في الخارج، بل بين المؤسسات الدستورية الأميركية، بل بين وزرائه وأعوانه داخل البيت الأبيض ذاته، فتضاربت تصريحاته وتصريحاتهم، وأوقفت المحاكم قراراته، لاسيما تلك التي بدأ بها مخططه في حملة الكراهية ضد الآخر، بمنع رعايا سبع دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة الأميركية.ولكنه، أي ترامب، أراد أي يثبت لمعارضيه العكس فراح يجوب العالم ليقتسم مع أممه وشعوبه ثرواتها، بدعوى حماية أميركا لها، وأن القواعد العسكرية الأميركية في الخارج يجب أن تدفع هذه الشعوب والأمم نفقاتها، كأكبر منشط لمبيعات شركات الأسلحة الأميركية وغيرها من شركات، وهو الدور الحقيقي له كأحد أكبر رجال الأعمال في العالم كله، لا في الولايات المتحدة الأميركية فحسب.ولكن ترامب عاد إلى نقطة الصفر مرة أخرى في أحداث العنف التي وقعت في مدينة تشارلوتسفيل في الولايات المتحدة الأميركية وأصبح في عزلة من جديد.ترامب في عزلة داخلية وخارجيةولكن مسلسل ترامب وثقافته ضد الآخر، لا يستهدف الدول الأخرى وحدها، بل يستهدف كذلك الآخر في الولايات المتحدة الاميركية ذاتها، فقد توعد الأعراق الأخرى في المجتمع الأميركي في حملته الانتخابية بالإقصاء، وجاء تصريحه حول هذه الأحداث منسجماً ومتوافقاً مع هذا الإقصاء، عندما وجه بعض اللوم إلى تظاهرة سلمية مناهضة للعنصرية تعرضت لدهس بالسيارة من النازيين الجدد في أميركا، فساوى بينهم وبين النازيين الجدد في لومه للطرفين.وهو ما استنكرته وانتقدته رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي قائلة: "لا أرى تساوياً بين من يتبنون وجهات النظر الفاشية ومن يعارضونهم، وفي ألمانيا التي تطبق قوانين صارمة ضد خطاب الكراهية وأي رمز مرتبط بالنازية، نددت المستشارة أنجيلا ميركل بهذا التصريح وبـ"العنف العنصري من اليمين المتطرف".كما انتقد وزير الخارجية الألماني سيغمار غابرييل ما وصفه بـ"الخطأ الجسيم" الذي ارتكبه ترامب، كما نددت الأمم المتحدة بالمظاهرات العنصرية في الولايات المتحدة الأميركية، ودان بيان صادر من اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز العنصري في الهيئة الاضطرابات السياسية التي وقعت في مدينة تشالوتسفيل بولاية فرجينيا.تذكرت في هذا السياق اللوم الذي وجهناه جميعاً إلى الرئيس السابق محمد مرسي عندما قرر في حادث خطف ثمانية جنود أمن مركزي في سيناء، بأن سياسته في إنقاذ هؤلاء هي المحافظة على أرواح الخاطفين والمختطفين.