أطلقت ديوانك الأخير بعنوان «قمر مفاجئ». هل نفاجأ بالقمر؟نعم في كل وقت ننظر فيه إلى القمر سنفاجأ بوجوده، لأننا نتناساه كثيراً في ظل مشاغلنا. «قمر مفاجئ» هو ديوان في الغزل، ومعظم قصائده في الحب. لكن يميزه عن الغزل الكلاسيكي أمران: أولاً أن جانباً كبيراً من القصائد مكتوب وفقاً لجماليات القصيدة التسعينية، التي اصطلح النقاد على تسميتها قصيدة النثر من عناية بالتفاصيل اليومية ومن الاهتمام بالمفارقة، ثانياً، أن الهم السياسي حاضر في قسم من الديوان، والسياسة هنا بالمعنى العام غير المحدود بفترة محددة، مثل «التغزل» في فكرة «الشعب»، وهذا أمر مفاجئ من دون أن تذكر هذه الكلمة مطلقاً، أو فكرة «الثورة». لكن القصائد تغطي أطيافاً متنوعة من ألوان الحب مثل: الغزل الصريح بل، والغزل الذي يسترجع تقاليد عربية كلاسيكية من حيث المجاز والصور والموسيقى، وشعر الحب الوجيز المعتمد على اللمحات والتفاصيل العابرة في مدينة حداثية، لا سيما الشعر المتوسل بالإحالات إلى عالم السينما.
قصيدة واحدة
هل تتفق مع كثيرين ممن يقولون بوجود روابط عدة تجمع بين دواوينك الثلاثة؟من الطبيعي وجود روابط جمالية بين الدواوين الثلاثة، رغم الاختلاف الشديد بين روح الديوان الأول «الموتى لا يستهلكون» وروح ديواني «التي» و«قمر مفاجئ». في الأول قدر من التهكم والنقد اللاسلطوي الموجود في قصائد شعراء التسعينيات، بينما يغلب على الديوانين الثاني والثالث الغزل، وهو موضوع قليل ما يتطرّق إليه شعراء التسعينيات، ومعظم من جرؤ على الكتابة عن الحب منهم فعل ذلك بعدما بلغ قدراً من النضج العمري والفني، لأن الحب أحد أقدم موضوعات الشعر ولا بد من قدر من الصنعة والمغامرة ليتمكن الشاعر من إضافة شيء جدي في هذا الصدد. لكن في دواويني كافة تختفي العناوين تقريباً، وهي مكتوبة في مقاطع منفصلة/ متصلة، وقصيرة، وشديدة التركيز دائماً، ومع ذلك تنتظم في أقسام كبيرة. مثلاً، في الديوان الأول مجموعة قصائد تبدأ دائماً بكلمة «بشر»، وتتبع لمحات من حياة الجموع في مدن تعتصرها تغيرات الحياة الحديثة وضغوط كسب القوت أو التأقلم مع الموضة أو التفاعل مع الثقافات الغربية، تصور البعض أن القسم كله قصيدة واحدة طويلة، وهي قراءة وجيهة، رغم أن ذلك لم يكن مقصدي. نصادف الملامح الشكلية نفسها في الديوان الثاني، فمثلاً القسم المعنون «التي» يبدو وكأنه قصيدة واحدة تبدأ مقاطعها دائماً بكلمة «التي»، لكن ما يجمع هذا الديوان بديواني الأخير «قمر مفاجئ» من حيث المضمون هو غلبة «ثيمة» الحب. الفارق بين الديوانين الأخيرين أنني أفردت مساحة كبيرة لاسترجاع جمل وعبارات من عيون الشعر الكلاسيكي القديم والحديث وطَعَمْتُ بها قصائدي الحداثية، من المتنبي إلى شوقي، بينما قليل ما «لعبت» هذه اللعبة في الديوان الثاني.بعد ثلاثة دواوين شعرية، كيف تشعر بأبعاد مسؤوليتك تجاه قارئك؟حق القارئ عليَّ ألا أضيع وقته من دون أن يحصل على متعة أو أن يشعر بالدهشة، وهاتان هما وظيفتا الشعر الأساسيتان في زمننا هذا. لكني لا أتصور أن علاقتي بالقارئ مبنية على مسؤوليتي تجاهه، لأني أثق في أن الشخص الذي يدفع جنيهاً ثمناً للشعر من الذكاء والحساسية بمكان، بحيث لا يتوقع مني موقفاً «أبوياً» تجاهه. إنما أعد القارئ والقارئة بأن أسعى دائماً إلى إغوائهما بالشعر أو على الأقل جذب انتباههما على نحو يمتعهما بقدر ما يمتعني.تقيم في كندا وتعمل بالتدريس في إحدى جامعاتها، فماذا أضافت إليك تجربة الغربة؟وفّرت لي الغربة ظروفاً مناسبة للعمل والبحث العلمي، لا سيما في مجال تخصصي: الثقافة العربية الحديثة. يقول صلاح عبد الصبور في إحدى قصائده، على لسان ناسك: «أجافيكم لأعرفكم». لا أعيش حياة النساك في كندا، لكن المسافة بين أميركا الشمالية، حيث أعيش وبين العالم العربي تسمح لي برؤية محايدة ومتأملة، ما ينعكس على إنتاجي العلمي وقصائدي على السواء، ويفسح مكاناً للمفارقة التي تعني حرفياً وجود مسافة فاصلة بين طرفين، وتؤدي دوراً واضحاً في قصائدي.الشرق والغرب
ما الذي يتوقعه وينتظره القارئ الغربي من الأدب العربي؟لا يهتم القارئ الغربي المتوسط أصلاً بالأدب العربي، لأن الغلبة في سوقه للآداب المكتوبة باللغات الأوروبية الكبرى، فيما عدا استثناءات محدودة، كالاهتمام العريض في فرنسا برواية «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني. لكن في الغرب عشاق للآداب المترجمة من بلاد «الشرق» ومنهم من يهتم بالأدب العربي خصوصاً. «أهل الهوى» هؤلاء كثيراً ما يتخاطفون ما يقع بين أيديهم عن العالم العربي من أدب ودراسات اجتماعية وسياسية وأفلام، بشرط أن يؤكد هذا الإنتاج الثقافي اختلاف العالم العربي عن العالم الغربي، إذ لا بد من أن يثير نوعاً من الغرائبية وسحر الغموض، بالمعنى الاستشراقي، أو بمعنى عدم خضوع العالم العربي للقيم والمعايير العقلانية الرشيدة التي تحكم المجتمعات الغربية. لذا فالغالبية العظمى من الروايات العربية المترجمة إلى اللغات الأوروبية يمكن قراءتها: «وثائق» تعبر عن مشاكل في المجتمعات العربية تحظى بعناية الغرب، مثل مشاكل التمييز العرقي، والعنف ضد المرأة والاستبداد.هل تنتمي إلى اتجاه أو مدرسة أدبية معينة؟بدأت الكتابة بشكل جدي في التسعينيات، وقصائدي تحمل ملامح ما يُسمى «شعر التسعينيات»، من احتفاء بالتفاصيل والانطلاق من اليومي والعادي. شخصياً، استخدمت في كتاباتي النقدية مصطلحي «تيار الوعي بالأشياء» و«واقعية التفاصيل»، مشيراً إلى جماليات تيار عابر للأنواع في الرواية والشعر والسينما، نجدها في أعمال كتاب ومخرجين كثيرين منذ التسعينيات إلى اليوم. وأزعم أن قصائدي تدخل في إطار ما تصفه كل هذه المصطلحات، وربما كان مصطلحا «شعر التفاصيل» أو «واقعية التفاصيل» أقرب وصفين لقصائدي. يرى شعراء «قصيدة النثر» في المصطلح الأخير تأكيداً على تمردهم الكامل على المجاز وعلى أية شبهة قافية أو جناس، فضلاً عن رفضهم التفعيلة. لكني أرى أن ما يُكْتَب تحت مسمى «قصيدة النثر» أكثر تركيزاً من النثر العادي وأبعد عن المجاز مما كانت عليه قصيدة النثر الأوروبية في القرن التاسع عشر، لهذا أفضل مسمىً مختلفاً.الشعر باقٍ
يرى وليد الخشاب أن الشعر باق رغم ازدهار فن الرواية وتصدرها المشهد الأدبي، ويقول: «يتحدث المثقفون والمنظرون، بل ورجال السياسة، كثيراً عن النهايات: نهاية التاريخ بمعنى نهاية التنافس بين قطبين دوليين، وانتصار الرأسمالية، ونهاية العالم إما بالمعنى الديني ليوم القيامة أو بمعنى تدمير المنظومة البيئية بسبب التلوث، ونهاية الشعر بمعنى تغلب الأنواع السردية، لا سيما الرواية على الساحة الأدبية... إلخ. لكن الحقيقة أن الهلع من النهايات مجرد رصد للتغيرات السريعة التي يتعرّض لها عالمنا المعاصر وتعبير عن الخوف من عدم التأقلم معها، سواء على المستوى السياسي أو البيئي أو الأدبي. والشعر اليوم فقد معظم دعم مؤسسات الدولة، لأنه يقف غالباً في معسكر التمرّد على الخطابات المستقرة سواء في الحكم بالمعنى السياسي أو في شكل العلاقات الاجتماعية، وتمرّده على العمود ثم على التفعيلة مقاومةً رمزية لميراث السلطة التقليدي في المجتمع العربي». يتابع: «إن كانت الرواية احتلت مكانة الشعر كمعبر عن قضايا المجتمع الكبرى أو كوسيلة الاستمتاع الأدبية الأولى، فإن الشعر يؤكد يوماً بعد يوم وظيفته الحالية كمساحة للتمرد والخروج عن المألوف والسائد على المستويين السياسي والجمالي، ولعل ازدهار شعر العامية المرتبط بالثورة المصرية في السنوات الأخيرة أكبر دليل على ذلك، بهذا يؤدي الشعر دوره المعاصر كمثير للمتعة والدهشة معاً».