هي الحياة، كلما تقدَّم الإنسان خطوة إلى الأمام، خلَّف وراءه شيئاً منه؛ من أيام عمره، ومن حلو روحه، وذكرياته وبساطته ولغته وسلوك تعوَّد عليه، ووجوه اعتاد العيش بينها. يتضح هذا جلياً فيما ذهبت إليه البشرية بعد ثورة المعلومات وشبكة الإنترنت، والمتمثل تحديداً في مشاهدة التلفزيون الملوَّن العابر للقارات بمئات مئات القنوات الفضائية المتخصصة التي تبث على مدار الساعة، والسير في طريق شبكات التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث، والابتعاد عن المحيط العائلي، ومحيط الأهل والصداقات الاجتماعية الإنسانية الطازجة. وأخيراً، إدمان العيش تحت مظلة عوالم؛ فيسبوك وتويتر وإنستغرام وسناب شات.

في الولايات المتحدة الأميركية، ومنذ سنوات، هناك عيادات متخصصة تساعد مدمني العيش في العالم الافتراضي، مدمني الكمبيوتر والتلفون الذكي على العودة إلى الحياة الطبيعية، العودة إلى العيش بين الأسرة والأهل والأصدقاء والمكان واللغة، العودة إلى العيش في مخاضات الحياة اليومية، والسير في طريق الواقع، والخطو في غبار اللحظة، وربما التعطر بعطرها. هناك من أصبح معاقاً لا يعرف كيف يعايش من حوله؛ البشر والمكان والطبيعة، وصار يصعب عليه مفارقة تلفونه الذكي، والبحث المتواصل في جديد الشخوص الافتراضية التي يتابعها. الشخوص الافتراضية، التي تحظى بمئات الآلاف، وربما الملايين، من المتابعين، تبقى شخوصا افتراضية لا علاقة لها بشخوصها الحقيقية، ويُعدُّ ظهورها في العالم الافتراضي، وفي الغالب الأعم، مُقنّعاً ولامعاً يغاير حقيقة شخصياتها.

Ad

في تغريدات "تويتر"، وفي كتابات "فيسبوك"، وفي مقاطع "سناب شات"، نرى البعض وهم يقدمون أنفسهم في أجمل هيئة وأطيب مقال، وبما يخالف حقيقتهم لمن يعرفهم ويعايش قربهم.

فإذا كان عالم الواقع يحتمل تعامل البشر بأقنعتهم اليومية، ففي العالم الافتراضي يكاد الجميع يلبس ألف قناع وقناع، قناع اللحظة، وقناع الكلمة، وقناع الصورة، وقناع الزيف الاجتماعي المكشوف.

ستطرح إحدى شركات التلفونات المعروفة تلفوناً جديداً صغيراً بحجم بطاقة السحب الآلي، لا تحتمل ذاكرته أكثر من سبعة أرقام، ولا يمكن لمستخدمه إرسال أو استقبال أي رسالة، أو إيميل، أو إرسال أو استقبال أي صورة. تلفون صغير وبسيط يقوم بالمهمة الأساسية للتلفون، وهي التواصل مع الأهل والأصدقاء، والعمل بما هو ضروري وكفى. تلفون يجعل حامله يعيش لحظته الحقيقية، لحظة الواقع بصخب؛ بشرها وبكل ألوانها وأصواتها وروائحها، بعيدا عن الواقع الافتراضي.

تكلمت مع الكثيرين من مدمني التلفون الذكي وشبكات التواصل الاجتماعي، الذين ما عادوا يستطيعون التعايش مع واقعهم. الذين باتوا يعانون من غربتهم عما يحيط بهم؛ بين الأهل وفي المدرسة والوظيفة. كلهم يشكون من إدمانه، وكلهم يتمنى التخلص من هذا الإدمان المزعج، والعودة إلى حياة الواقع. وكما هو إدمان أي مخدر، لا يمكن هجر اعتياد العيش تحت مظلمة العالم الافتراضي بين يوم وليلة. لكن الخطوة الأولى تتمثل في تقنين استخدام التلفون، ووضع جدول بسيط لأوقات استخدامه، فلا يصح أن يبقى أحدنا ممسكا بتلفونه الذكي طوال الوقت. إن السيطرة، ومن ثم التعوُّد على استخدام التلفون في أوقات بعينها، كأن تكون نصف ساعة صباحاً، ومثلها ظهراً ومساءً تساعد كثيراً على التخلص من سطوة إدمانه. والخطوة الثانية، تتمثل في تقليل عدد الشخصيات التي يتابعها المدمن. فبدلاً عن متابعة خمسين شخصية، يبدأ بحذف عشر شخصيات، ومن ثم عشرين، حتى يصل في النهاية إلى متابعة خمس شخصيات.

الغربة عن الواقع الحقيقي، والغرق في الواقع الافتراضي، خلقا جيلاً من الأبناء لا يُحسن حتى مجالسة الأصدقاء، والنطق بجملة ترحيب بهم. الغربة عن الواقع خلقت إنساناً متوحشاً لا يستطيع معاشرة البشر إلا عبر الشاشة وحين يكون بعيداً عنهم. الغربة عن الواقع خلقت إنساناً غريباً عن واقعه ومحيطه، ولسان حاله يقول "أنا هنا وأنا لست كذلك".