محمد طه حسين: الشرق والغرب التقيا قبل التاريخ نفسه

تجسد أعمالك علاقة الشرق بالغرب، فهل تتعمد ذلك أم جاء الموضوع من قبيل المصادفة؟

عندما أتحدث عن علاقة الشرق بالغرب، أذكر الدراسة في أكاديمية دوسلدورف إلى جانب عملي في الفن والدراسات في تكنولوجيا الغرافيك والظل والنور على الحجر، حيث تمكنت من توثيق بعض الجوانب الخاصة بالفن الغربي وعلاقته بالفن الإسلامي، وكيف أثر الفن الغربي في المرحلة الوسطى، خصوصاً في القرون المملوكية في مصر، ما صنع نوعاً من التثبيت لفكرة ألا وجود لفن يخرج من لا شيء، فأي عمل فني لا بد من أن يكون له مرادفات، كذلك ثمة حوار إنساني في المجالات كافة حتى لو على بعد أميال، وهذا الحوار مستمر ما دام يحيا الإنسان. فكرة الشرق والغرب مستمرة لدي منذ 1962 حتى اليوم، ومعارضي الأخيرة تؤكد ذلك.

منمنمات

تتسم أعمالك باحتوائها على النموذج البنيوي في تركيزه على الأجزاء الصغيرة. لماذا اتجهت إلى هذا النموذج؟

أنا منمنم في حياتي الشخصية، أفضل معرفة التفاصيل الدقيقة جداً، لأن تجميعها يشكِّل الموضوع في النهاية، وطوال مشواري سواء في النحت أو الخزف وغيره أجمع النقطة مع المثلث والمساحة في فكرة واحدة، وأعتبر أن ثمة ملمساً اجتماعياً يجتمع في النهاية ويعطيني تعويضاً على ظل ونور وأصل إلى حقيقة الشكل والموضوع من خلال المنمنمة الصغيرة. من جهة أخرى، هذه المنمنمة غير مكررة بشكل واحد لأني إذا قدمت 30 منمنمة فستكون لكل منمنمة شخصية مختلفة عن الأخرى، ومن خلال هذا أصنع نوعاً من الحوار على الصفحة، وأتحدث إلى الصورة، فأضع لها نقطة مثلاً، والنقطة التي إلى جوارها تصنع موضوعاً أنسجه بالنقاط فتخرج اللوحة، وليس مجرد «لطشات» سريعة. عموماً، للكل مساحة أساس ما.

جمعت بين الخزف وأعمال الحفر والتصوير، كيف أفادك ذلك أم كانت هذه موجة سائدة في حقبة الخمسينيات؟

لم تكن موجة سائدة، بل هو حب التجريب في المواد والأدوات، وهذه إحدى سمات المجتمع الذي عشنا فيه حتى اليوم. عندما أريد أن أقدم فكرتي بطريقة مجسمة باستطاعتي استخدام أي نوع من الخامات، وهذه قدرة تُضاف إلى قدرات الإنسان نفسه. ربما أقول إني فنان شامل، ولكن دراسة الأدوات والخامات والحرفيات اختصاصات مختلفة، وفي النهاية ميولي تتجه أكثر إلى التصوير والتعبير بشكل سريع عن الموضوع.

مسيرة ومسار

خضت رحلة مع الفن قوامها أكثر من ستة عقود، فما هي أبرز محطاتها في رأيك؟

أرى أن لنشأتي في حي الأزهر وسط العمارة الإسلامية دوراً كبيراً في رحلتي الفنية. نشأت داخل محراب فني كبير، ثم التحقت بكلية الفنون التطبيقية عام 1946، ودرست على يد كبار الفنانين والرواد أمثال سعيد الصدر، ومحمد النجار، وفؤاد كامل، فكان لذلك أثره في تكويني، وكانت هذه الفترة غنية، بالإضافة إلى ثراء التعليم في الخمسينيات. كانت المحطة الأولى الدراسة في الجامعة، حيث قسّم الزخرفة الذي كان يشمل الخزف والزخرفة والزجاج، وكل ما يشمل الفنون المرئية تقريباً، وكان لهذا التنوع دور كبير في عملي، ومن هنا تعاملت مع نحاتين ومصورين ورسامين. أما المرحلة الثانية فكانت بعد التخرج وكانت مسألة التعيينات صعبة جداً، وعندما أعلن إطلاق مسابقة النحت تحت مسمى إلغاء معاهدة 1936، تقدمت إليها، وأنا لست نحاتاً ولكن كان لديَّ حس بالكتلة والفراغ والتجسيم، فحصلت على الجائزة الأولى للنحت عام 1952، وكان هذا تحولاً أكّد لي إمكان العمل بالنحت والأدوات الفنية المختلفة. أما المرحلة الثالثة، فكانت عندما تقدّمت للدراسة في المعهد العالي للتربية الفنية عام 1952 على أساس أنها شبه دراسة عليا، وحصلت على دبلوم المعهد بتفوق، وأضاف المعهد إليّ جانباً ثقافياً مهماً جداً، حيث تعرفت إلى الحركات الفنية العالمية، ما صنع لديَّ نوعاً من التثقيف الحقيقي، فضلاً عن استفادتي من الأساتذة الكبار وكانوا جاؤوا من الخارج أمثال سعد الخادم الذي كان على علاقة بالفن الشعبي، ومصطفى الأرناؤوطي المنظر والمصور الممتاز بحسه السريالي، ومحمود البسيوني الذي كان صاحب ثقافة في التربية عن طريق الفن والمداخل المعاصرة والمناظرة، كذلك حمدي خميس. هكذا كنت محاصراً بمجموعة فنية كبيرة، وجاء التنظير لديَّ موازياً للتركيبة العملية، حيث صنعت نوعاً من الحوار المتكامل مع بعضه، وبين التنظير والفن والمعرفة بالآخر في مجال الفن التشكيلي عموماً.

لقاء الشرق والغرب

ما هي الرسالة التي أردت إيصالها من خلال معارضك التشكيلية؟

رسالة تجيب عن أسئلة عدة. ثمة من يقول إن الشرق شرق والغرب غرب ولا يمكن أن يلتقيا، ولكني أقول إنهما التقيا فعلاً، وربما قبل التاريخ نفسه. التقى الإنسان أخاه الإنسان سواء بأفكاره أو بيئته التي يتحاور فيها، فالأفكار متقاربة، كذلك الحياة والموت ولا مجال للفصل بين الشرق والغرب، وإنما نحن الذين نسعى إلى ذلك. ثمة تزاوج دائم بين الأفكار والإنتاج والعلاقات الإنسانية، والتفاعل مع الثقافة الأجنبية يؤدي إلى تنشيط القطب الذاتي نحو عملية معايشته في الطريقة الذاتية، كما قال غوته. والمعرض لا يرتبط في مضمونه ومعناه بالمعنى الجغرافي بل بالمعنى الإبداعي في مجالات الفنون وغيرها من إبداعات إنسانية عايشتها الحضارات والثقافات بين الشرق والغرب بما أحدث ثراءً وتنوعاً وتجديداً هائلاً في فكر الشعوب وثقافتها منذ القدم حتى الآن.

هل تعتقد أن فنون الحداثة، وما بعدها يمكن لها أن تلغي الفنون التقليدية أو تؤثر فيها؟

لن يلغي أي فن فناً آخر، أو ينهي تراث ما تراثاً آخر، لأن كل عمل فني يخرج من موقع إنساني او من الإنسانة عموماً. ما أقدمه اليوم سيكون تراثاً غداً، والفنون جميعها تبني بعضها بعضاً، ومثلما نبني لوحة نبني حضارة وثقافة. كذلك التكنولوجيا لم تلغ القديم، والعمارة القديمة قامت على فكرة القديم، وزودتها التكنولوجيا بالإمكانات الحديثة.

يرى الفنان محمد طه حسين أن الفن يعكس وجهة نظر صاحبه، ويقول: «أعمالي عكست رؤيتي منذ كنت طالباً في الجامعة، حيث عكست وجهة نظري الاجتماعية والمرئية لكل ما حولي، لأن لا وجود لفنان يخرج من فراغ، بل ينعكس فنه داخله، وهو نفسه يقيم ما في داخله قبل أن يخرج من فراغ. أرى أن أعمالي تعبير صادق عما أفكر فيه، خصوصاً أنني لا أكرر نفسي». ويضيف: «يمثل اللاشعور والموروث ماضي العمل الفني، وهو أمر موجود لدى كل فنان سواء كان موسيقياً أو مسرحياً أو تشكيلياً، ولا بد من أن يخرج بشكل أو بآخر، ومن يرفض القديم يكذب على نفسه، لأنه في داخله وسيخرج بأي شكل».