لماذا يقدم أرباب العمل على انهاء خدمات قلة من العمال بدلاً من تخفيض أجور الكل؟ هذه العملية ليست بعيدة عن المنطق كما تبدو للعيان.

استمر وضع التوسع الراهن في ميدان الاقتصاد لدينا فترة طويلة، ولكن موجة اخرى من الركود سوف تحدث في نهاية المطاف، وعندئذ سوف يفقد الكثير من الناس وظائفهم وترتفع معدلات البطالة، ومن هذا المنطلق يتعين عليك أن تطرح السؤال التالي على نفسك: عندما يحين ذلك الوقت – أي الركود – هل تفضل أن تتعرض لخفض في أجرك يصل الى 10 في المئة أو أن تواجه فرصة التعرض الى بطالة بنسبة 10 في المئة أيضاً؟

Ad

وبينما لا يزال ذلك كله في نطاق الاحتمالات النظرية فقط فإن المخاطر تبدو متماثلة، أما على الصعيد العملي فإن الخفض في الأجر الذي يصل الى 10 في المئة سوف يكون محزناً، ولكن الحرمان من الدخل بصورة تامة سوف يكون كارثياً.

وتجدر الاشارة الى أن البطالة، لاسيما اذا استمرت فترة طويلة، هي واحدة من أسوأ التجارب التي يمكن أن يتعرض لها الانسان، كما أنها حالة من قلة من الحالات التي تفضي الى تعاسة المرء التي لا يستطيع التعافي منها الى أن يحصل على فرصة عمل جديدة.

القرار السهل

وهكذا قد يبدو أن اتخاذ قرار في هذا الشأن يجب أن يكون سهلاً: قبول الخفض الصغير والمؤكد بدلاً من الخسارة الكبيرة المدمرة. وعلى الرغم من ذلك فإن هذا هو عكس ما نشهده في واقع الأمر، وعلى سبيل المثال فإن أرباب العمل هم من يتخذ القرار في هذه المسألة وليس العمال – ويبدو أنهم غير راغبين في خفض الأجور في فترات الانكماش الاقتصادي وهم يعمدون بدلاً من ذلك الى استخدام انهاء خدمات الموظفين من أجل السيطرة على تكلفة العمل بصورة عامة.

وهذه صورة غامضة ومحيرة يشير خبراء الاقتصاد اليها بجملة «مشكلة الأجور الصعبة والمؤلمة»، وحتى مع أن الناس قد يكونون في حال أفضل في فترة البطالة الأقل والأجور الأدنى فإننا لا نشهد تلك الحصيلة السعيدة، وبدلاً من ذلك نحن نتعرض الى حالات من الركود الأعمق والأشد نظراً لأن العاطلين عن العمل أصبحوا يفتقرون الى القوة الشرائية بصورة تامة كما أن الشريحة المستمرة في العمل سوف تقرر خفض انفاقها بدافع الخوف من أن تتعرض هي أيضاً وفي وقت قريب الى البطالة والافلاس.

وهذا ليس أيضاً المكان الوحيد الذي نشهد فيه استمرار الأسعار في مستويات خطأ تفضي الى متاعب اقتصادية كبرى ومؤلمة، وقد طرحت في مقالة نشرت بصحيفة نيويورك تايمز في الآونة الأخيرة وبالكثير من التفصيل، ظاهرة سوف تبدو مألوفة بالنسبة الى سكان المناطق الحضرية وهي تتمثل في خلو متاجر سوهو من الزبائن بسبب رفض الملاك خفض ايجاراتها، ويفترض أن الملاك أصبحوا في حال أكثر سوءاً مما لو أنهم عمدوا الى التأجير بمبالغ أقل مع احتفاظهم بقدر ما من الدخل.

ما الذي يجري؟

تفسر واحدة من النظريات المأزق المتمثل في الأجور ولكن ليس في ميدان العقارات، إذ يربط الناس الكثير من هويتهم الشخصية برواتبهم ودخلهم، وهكذا وفيما يشكل الاستغناء عن العاملين أزمة قاسية فإن خفض أجور الكل سوف يفضي الى نشر تلك الأزمة الى كل شرائح الطبقة العاملة ويؤدي أيضاً الى تأثيرات معنوية ويجعل العمليات أقل انتاجية، ولكن يتعين على الملاك أن يتطلعوا الى الفرصة الرئيسية المتمثلة في عدم تحديد الايجارات على أساس مصلحتهم الشخصية بدلاً من قدرة السوق على تقبل ذلك المسار.

وربما تفسر نظرية اخرى القرارات التي سبق أن اتخذها البعض من أصحاب العقارات بشأن الابقاء على عقاراتهم شاغرة من دون تأجير وهي أن عقود الإيجار تستمر مدة طويلة في أغلب الأحيان ولذلك عندما يوقعون عقد ايجار فإنهم يتخلون عن البعض من خيار القيمة وهي خطوة يرون أنها ليست في صالحهم في الأجل الطويل. وفي وضع الأسواق المرتفعة السعر قد يكون الايجار في الوقت الراهن مجرد «اكس» بينما قد يرتفع في العام المقبل الى ما يصل الى «1.8 اكس»، وهكذا عندما يوقعون عقد ايجار مدة عشر سنوات الآن سوف يخسرون في نهاية المطاف نسبة من الدخل الذي كان يمكن أن يتحقق لهم لو أنهم تركوا العقار من دون تأجير لفترة من الزمن.

وتشير مقالة صحيفة نيويورك تايمز الى سبب آخر يفسر قرار أصحاب العقارات بترك متاجرهم شاغرة – وهو سبب قد يطرحه البعض من التوضيح المتعلق بجمود الأجور بالصورة التي هي عليه اليوم، ولكن أصحاب الأبنية الذين اشتروا عقاراتهم في السنوات الأخيرة وهم يتوقعون أن تستمر الايجارات في الارتفاع قد يتعرضون الى مأزق، ويرجع ذلك الى أنهم من أجل تأمين التمويل اللازم كان عليهم توقع مستوى معين من الدخل، واذا قبلوا بأقل من ذلك المستوى فإنهم سوف يتعرضون الى خطر التخلف عن السداد، أو مواجهة طلب شركة الاقراض بوضع مزيد من القيمة في المبنى.

التصرف السليم

وبكلمات اخرى فإن أصحاب العقارات يتصرفون بطريقة سليمة، وربما يفضلون تأجيرها بسعر أقل بدلاً من عدم الحصول على أي مردود على الاطلاق، ولكن ذلك ليس خياراً لأنهم في حال قيامهم بتوقيع عقود ايجار سوف يتعرضون الى ديون تفوق ترك العقارات شاغرة.

وكيف يمكن أن يفسر ذلك جمود الأجور؟ الجواب هو أن العديدين منا في مواقع مماثلة ازاء أصحاب العقارات، وقد سبق أن وعدنا البنوك بتقديم مستويات معينة من الدخل، وهي مستويات سوف تمكننا من تسديد الرهن العقاري، وأقساط السيارة والفوائد الناجمة عن بطاقات الائتمان، وإذا قمنا بالاقتراض ضمن حدود ذلك الدخل (وهو ما يفعله العديد من الأميركيين على أي حال) فإن الفارق بين قبول خفض بنسبة 10 في المئة من الأجر وفقدان الوظيفة سوف يكون غير ذي أهمية من الوجهة المالية، لأننا في الحالتين سوف نخسر المنزل أو السيارة أو نتخلف عن سداد رسوم بطاقة الائتمان ومن ثم سوف ينتهي بنا الأمر الى الافلاس. ومن هذا المنطلق سوف يتردد العمال بشكل كبير جداً في قبول ذلك الخفض في الأجر لأنه حتى في حال الخفض البسيط فإن النتيجة سوف تكون كارثية على صعيد شخصي.

ويتماشى ذلك مع حصيلة نفسانية توصل اليها دانييل كاهنمان وأموس تفيرسكي تقول إن الناس ينفرون من الخسارة بقدر يفوق كثيراً شعورهم ازاء المكاسب المحتملة، وقد طرحا على مجموعة من الطلاب السؤال التالي:

تستعد الولايات المتحدة لممواجهة تفشي مرض آسيوي غير معتاد يتوقع أن يقضي على 600 شخص، وقد تم طرح اقتراحين لمحاربة هذا المرض ضمن برنامجين، ولنفترض أن التقديرات العلمية الدقيقة لعواقب هذين البرنامجين كانت على النحو التالي: إذا كان البرنامج الأول الذي سوف نطلق عليه اسم البرنامج «أ» قد تم تبنيه فإن حوالي 200 شخص سوف يمكن إنقاذهم، وإذا تم تبني البرنامج الثاني الذي سوف نطلق عليه اسم البرنامج «ب» توجد امكانية بنسبة الثلث لإنقاذ 600 شخص، مع احتمال بنسبة الثلثين ألا يتم انقاذ أي شخص فأي واحد من هذين البرنامجين سوف تؤيد؟

ويتعين هنا أن نلاحظ أن القيمة المتوقعة من الخيارين هي ذاتها، وفي السيناريو الأول سوف يتم إنقاذ 200 شخص، وفي السيناريو الثاني سوف يتم انقاذ 600 شخص مرة واحدة، في الحالتين سوف يتم انقاذ 200 شخص بشكل وسطي في كل مرة، ولكن معظم من تم استطلاع آرائهم اختاروا الاستراتيجية المتدنية الخطر.

ثم عمد فريق البحث إلى تغيير السؤال ليصبح على النحو التالي:

تستعد الولايات المتحدة ... الى آخر ما ورد في السؤال الأول، ثم انتقلنا الى القول: إذا تم تبني البرنامج «ج» فسوف يموت 400 شخص، وإذا تم تبني البرنامج «د» توجد امكانية بنسبة الثلث ألا يتعرض أحد الى الموت، وإمكانية بنسبة الثلثين في أن يموت 600 شخص، أي واحد من البرنامجين سوف تؤيد؟

كان هذا هو المأزق نفسه، وهو يبرز نسبة الموت بدلاً من ابراز نسبة انقاذ الأرواح، وفجأة أصبحت أكثرية من شملهم الاستطلاع تؤيد لعبة المقامرة، وكانت تحبذ المخاطرة بحياة كل شخص بغية تفادي التعرض الى خسارة معينة.

التركيز على السلبيات

تتسم ديوننا بطريقة تفضي الى التركيز على الجوانب السلبية لأن الديون تحول منعطف الدخل المستمر الى خطين غير مستمرين هما «القدرة على ايفاء كل الديون» و»الإفلاس أو العجز عن السداد». وبشكل عام تتسم الديون بطريقة تفضي الى تضخيم أحداث الحياة. وعندما تسير الأمور بشكل حسن يمكن للديون أن تجعل المرء في وضع جيد، حيث يستطيع شراء منزل وسيارة أو شراء منزل أكبر وسيارة أفضل، ولكن عندما تسوء الأحوال يمكن للديون أن تفضي الى تحويل خسارة طفيفة في الدخل الى كارثة كبرى.

وفي الوقت الراهن تثقل الديون كاهل معظم الأميركيين سواء كانوا من العمال العاديين أو من أصحاب العقارات التجارية، وهذا يعني أن معظم الأميركيين يجب أن يشعروا بحساسية استثنائية ازاء السماح لدخلهم بتجاوز الخط الذي يعجزون فيه عن دعم دفعات ديونهم.