حنظلة السليب

نشر في 03-09-2017
آخر تحديث 03-09-2017 | 00:00
 ناصر الظفيري كان ذلك في صيف عام 1987، حين شاركت والأستاذ راشد بورسلي في اجتماعات أندية اليونسكو، في مقر اليونسكو في باريس، وفي طريقنا للفندق كانت جريدة الشرق الأوسط، وعلى صفحتها الأولى تنقل خبر مقتل الرسام الفلسطيني الشهير ناجي العلي، مبتكر شخصية حنظلة. وهي الشخصية الأهم في حياة النضال الفلسطيني، لأسباب كثيرة سنتطرق إليها.

قتل ناجي العلي بعد أن ضغطت منظمة التحرير الفلسطينية على الكويت بترحيله، إذا رفض عرض المهادنة والتوقف عن انتقاد السلطة الفلسطينية ورجالاتها بتلك القسوة. رفض ناجي العلي أن يهادن، وأعلن أنه يعرف بأنه إنسان ميت منذ بدأ رسم فلسطين بصدق. ولكن الدم الذي تناثر في شوارع لندن ذلك العام لم يستطع أن يتعرف على قاتله. كثر المتهمون باغتيال ناجي العلي، ولم يتمكن التحقيق، الذي تنوي بريطانيا اليوم أن تعيد له الحياة، أن يشير لجهة دون غيرها. الجميع كانوا أعداء لرجل صادق في نضاله. لم تقم لناجي جنازة رسمية ولا شعبية، ولم يدفن في مخيم عين الحلوة، كما أوصى، وعاش مشرداً غريباً، ومات مشرداً غريباً.

عاش ناجي العلي حياة غير مستقرة، يرسم على جدران المعتقل الإسرائيلي والزنزانة العربية، منذ هجرته مع أسرته إلى الجنوب اللبناني، حتى وجد الاستقرار الأخير في الكويت عام 1969، وكان قد ابتدع شخصية حنظلة بعد هزيمة يونيو، والذي أدار ظهره للعالم عام 1973. حنظلة طفل العاشرة، وهو الفنان ناجي العلي ذاته، هاجر من بلده وهو في العاشرة، وأوقف الزمن عليه لا يكبر ولا يفك يديه المقيدتين، حتى يعود للبلد الذي غادره، ليبدأ يشعر بأن الزمن يتحرك. وبالتأكيد ذلك لم يحدث. قتل ناجي العلي صاحب حنظلة، وبقي حنظلة بعد سبعين عاماً من هجرته الأولى طفلاً في العاشرة.

شخصية حنظلة رغم أنها ولدت في لوحة، فإنها تشبه شخصية ولدت في رواية أو ملحمة شعرية. حنظلة شخصية مسحوقة، صراعها الحقيقي مع السلطة ورجالاتها، مع شعرائها المنافقين، وكتابها الانتهازيين، هؤلاء الذي أثروا ثراء فاحشاً، حتى تمددت كروشهم، تاركين لحنظلة ورفاقه الموت في سبيل الوطن، أو الجوع. هي ليست شخصية سلبية، ولكنها شخصية سليبة. قاوم حنظلة بشجاعة حالة النضال الفندقي، وفضح أولئك الذي بعثروه للريح، وباعوا حتى أسماله ليبنوا عروشهم.

حنظلة ليست الشخصية الوهمية التي يريد أن يراها الفلسطيني والعربي، وإنما الشخصية التي يجب أن يراها الفلسطيني والعربي. إنها الشخصية التي تمثل واقعه الحقيقي، واقعه المهزوم والانهزامي، وهي ليست ما يصوره الشعراء من بطولات مزيفة يصفق لها الجمهور والصف الأول من السياسيين. حنظلة هي صورتنا الحقيقية التي نتوارى عنها كي لانراها.

حنظلة كان شخصية يعرفها الفلسطيني في المخيم والمنفى، ويحاربها رجالات الثورة وهم يرون فيها صورتهم الحقيقية أمام جماهيرهم. شخصية حاربتها الأنظمة وحاربتها المنظمة، حاربتها إسرائيل التي ترى فيها إذكاء لثورة الحجارة وأطفالها الأبطال. حاربتها القوى التي فشلت في قمعها أو تركيعها، وكان لابد من إسكاتها وإطلاق النار عليها، وستفعل ذلك مع كل البسطاء الذين يعتقدون أنهم بقلم الرصاص يستطيعون مواجهتها. مات ناجي العلي وتكسرت أقلام الرصاص وعاش حنظلة وسيعيش حتى يعود إلى بيته الذي غادره. وها نحن نحتفل بصاحبه الذي غادرنا منذ ثلاثين عاماً، وسينسى التاريخ قاتله.

back to top