ثمة ثلاثة أخطاء كبيرة نرتكبها خلال تعاطينا مع الإعلام في معظم دولنا العربية؛ وهي أخطاء تكلفنا الكثير، ليس فقط لأنها تخصم من حرية الإعلام ومهنيته، ولكن أيضاً لأنها تحد من قدرتنا على حل مشكلاتنا السياسية والمجتمعية، وتحرفنا عن الصواب في كثير من الأحيان.أول هذه الأخطاء يتمثل بالنظر إلى قدراتنا الإعلامية باعتبارها أدوات قتال في معاركنا السياسية والدبلوماسية.
بسبب تلك النظرة غير السليمة تسعى النظم السياسية الحاكمة إلى تسخير المنظومات الإعلامية الوطنية لكي تصبح منابر للهجوم والدفاع في معاركها مع الدول أو المنظمات المعادية.يؤدي ذلك إلى تحويل المنظومة الإعلامية الوطنية إلى أذرع دعاية مباشرة، وأدوات علاقات عامة، أو منابر للتحدث باسم السلطة التنفيذية، مع ما يستتبعه هذا من فقدان دورها الأهم، باعتبارها مصدر اعتماد للجمهور في ما يخص الأخبار والمعلومات والتحليلات التي تتعلق بأولوياته.من ينظر إلى واقع منطقة الشرق الأوسط الراهن، يرى أن وسائل الإعلام الرئيسة فيها اندفعت في هجوم متبادل، تحولت خلاله إلى منصات للتلاسن، بحيث فقدت قدرتها على الظهور بقدر مناسب من الاستقلالية أو الموضوعية.يصعب جداً أن تتورط المنظومات الإعلامية الغربية الرشيدة في خطأ مماثل، وحين يحدث هذا، فإن تكاليفه تكون كبيرة، لكنه يحدث عندنا بانتظام، وفي بعض أسوأ مراحله، تنهار مصداقية الوسائل الإعلامية المتورطة، أو تخرج من دائرة التأثير تماماً، والأنكى من ذلك والأفدح أثراً هو ما يحصل للمنظومة الإعلامية الوطنية كاملة؛ إذ تبدد ما تتمتع به من مصداقية، فيلجأ جمهورها المستهدف إلى المنافسين، ليحصل منهم على ما يحتاجه من معلومات ومعارف وآراء.بمثل هذه الأخطاء الكبيرة، نفقد قدرتنا على النفاذ إلى قلب جمهورنا المحلي وعقله، ونسلمه ببساطة إلى منابر أخرى، تشكل رأيه وتصوغ نظرته عن قضايانا.أما الخطأ الثاني الذي نقع فيه عادة في منطقتنا عندما نتعامل مع المجال الإعلامي، فيكمن في الدعوة الدائمة من قبل السلطة التنفيذية ومؤيديها إلى أن يقوم الإعلام بطرح الحلول بدلاً من الهجوم والانتقاد وتوجيه الاتهامات لأطر الأداء الرسمية.يطرح أصحاب هذه الدعوة حججاً تبدو منطقية عن الدور الإيجابي للإعلام، وعدم النظر إلى نصف الكوب الخالي، والمساهمة في حل المعضلات التي تواجه بلادنا، والابتعاد عن نبرة الشكوى وإشاعة اليأس وإحباط الناس، والبحث عن حلول لمشكلاتهم بدلاً من ذلك.وبوضوح شديد، فإن دور الإعلام ليس تقديم حلول للمشكلات العامة، وإذا تعذر عليه ذلك، فلا لوم عليه ولا عتاب، وإلا فما دور السياسة وآلة الحكم؟أدوار الإعلام معروفة؛ وهي تتضمن الإخبار، والتثقيف، والترفيه، وترقية المعرفة، وإتاحة الفرص للمشاركة والتواصل وتبادل الرؤى والأفكار، والرقابة على أداء السلطات، وكشف الفساد، ونقد أنماط الأداء المجتمعية وعرضها وتفصيلها، والتعبير عن أصحاب المصالح، لكنها لا تتضمن تقديم حلول للمشكلات العامة.ثمة من يريد أن يخلط بين دور الإعلام ودور السياسة، وهو خلط لا يستهدف تعظيم دور الإعلام، أو تطوير أدائه، كما يفهم البعض، لكنه للأسف يستهدف تحويل الإعلام إلى ذراع دعائية من جانب، وتخفيف الضغوط على الجسم السياسي والإداري، والتماس الأعذار له عن سوء الأداء وتراجعه من جانب آخر.في مثل الأوضاع التي نعيشها، وضمن إدراكنا الكامل لخطورة التحديات التي تواجه بلادنا، يجب ألا تكون استجابتنا لتلك التحديات مرتبكة أو معوجة، بل يجب أن تنطلق من أسس موضوعية واحترافية، لنتمكن من عبور أزماتنا بسلام.في هذا الإطار، نريد أن نعرف حدود دور السياسة ولا نفتئت عليها، وأن نحدد دور الدين ولا نحمله أكثر من طاقته، وأن نعين دور الإعلام ولا نعول عليه بأكثر مما يجب، وأن نفهم دور الفن ولا نخصم منه، وأن ندرك دور الرياضة ولا نتوسع فيه.السياسة مسؤولة عن تشخيص المشكلات التي تواجه الأوطان، وعن طرح بدائل مناسبة للتعاطي معها، وعن إقناع الجمهور بالبدائل الأفضل، وتسويقها، وتنفيذها، وتقييمها، وتطويرها.تلك مسؤولية القيادة السياسية، والبرلمان، وعلى الأحزاب والتيارات الفكرية ذات المنحى السياسي أن تطرح طرحها المؤيد أو المعارض، وأن تتنافس كل هذه القوى الفاعلة من أجل تقديم الطرح الأفضل وإقناع الجمهور به، وصولاً إلى تنفيذه والبرهنة على نجاعته.أما الإعلام، فالمطلوب منه أن يدرك حدود دوره جيداً، وأن يظل داخل الإطار المهني، وأن يعتصم بالقيم والمعايير المتفق عليها دولياً في هذا الصدد، فيقوم بعرض المشكلات بدقة وأمانة، وإتاحة الفرص المتكافئة والعادلة للأطراف ذات الصلة لطرح مواقفها ورؤاها إزاء تلك المشكلات، مع تقديم الخلفية والسياق المناسبين، والتحليل الموضوعي الوافي.إذا فعل الإعلام أقل من ذلك يكون قد أخطأ، وإذا فعل أكثر من ذلك يكون قد أخطأ أيضاً، وعلينا في كل الأحوال أن نضمن بقاء ممارساته ضمن نطاق مهمته.أما الخطأ الثالث في ما يخص تعاطينا مع الشأن الإعلامي فيظهر في اعتبار بعض القيادات السياسية، في عدد كبير من دولنا العربية، أن الإعلام وسيلة لممارسة السلطة، وأسلوب الإدارة.بعض قادتنا السياسيين يكتفي بالعمل على إبراز صورته في الإعلام ومنحها البريق الأخاذ، ومراقبة ما يستهدف تلك الصورة من انتقادات وهجوم، ثم العمل على صده وإزالته، وحين تصبح الصورة، كما تظهر على الشاشات، جيدة وبراقة، يعتقد أنه أنجز أهم مهامه وحقق معظم أهدافه.إن هذا التصور خطأ بكل تأكيد، فكثيراً ما انخدعت نظم سياسية سلمت نفسها للانطباعات المتولدة لدى غرف الرصد الإعلامي.سيجد الزعيم الشمولي صورته في وسائل الإعلام المحلية في أي دولة من الدول براقة ولامعة، وسيصعب جداً عليه أن يرصد أي انتقاد أو هجوم بحقه، وسيوفر أيضاً ميليشيات إلكترونية تحمي صورته في الفضاء الإلكتروني، وتقهر خصومه ونقاده، فيشعر أن الساحة كلها أضحت ضمن نطاق موالاته، ثم يصحو فجأة على حقائق مرة كانت غائبة عنه، عندما يعرف أن الإعلام غير الحر لا يعكس حقيقة المجتمع.* كاتب مصري
مقالات
ثلاثة أخطاء في حق الإعلام
03-09-2017