مع المقدمة الموسيقية، وصوت عبد الحليم حافظ وهو يغني «كامل الأوصاف»، تبدأ مشاهد الفيلم التسجيلي «صهد الشتا» (41 دقيقة)، الذي وصفته مخرجته ألفت عثمان بأنه «فيلم تسجيلي مستقل عن شاعر الألوان مجدي نجيب». طوال مدة العرض التي ستستغرق الأربعين دقيقة، ستقع في غرام الفيلم، الذي سيدفعك إلى البحث عن الأغاني التي كتبها نجيب، واللوحات التي رسمها، لتكتشف أنه كان يرسم بقلمه، ويكتب بريشته، وهو المعنى الذي نجحت المخرجة في تأكيده عندما اختارت أن يُلقي بصوته أشعار بعض دواوينه بينما لوحاته التشكيلية على الشاشة، تنطق بالفرح والحزن، وتعكس روح الشعب المصري صاحب التراث التليد، والحارة الشعبية ذات العمق الضارب في الجذور.

اضطرت المخرجة بالطبع إلى السير على نهج الأفلام التسجيلية، التي تتوقّف عند البدايات، بهدف التعريف بضيفها، وتكوينه الثقافي. لكن شخصية مجدي نجيب، التي فرضت نفسها على الفيلم بأكمله، حلقت بنا إلى آفاق مغايرة، إذ لم يتحدث عن طفولته، وعما إذا كانت بائسة أم أنه ولد وفي فمه ملعقة من الذهب، بل عاد بنا إلى سور الأزبكية، الذي كان يلتقط منه الكتب ليقرأها، وولج بنا داخل المعتقل، الذي أمضى به السنوات من 1958 إلى 1961 تقريباً، وكان عجيباً أن يتحدث عن تلك الفترة بروح متسامحة، ومتفائلة، تثير الدهشة، لكنها الروح التي لو تمعنا في قراءتها لأدركنا أنها الروح التي تميز شخصيته. فإلى المعتقل يُرجع الفضل في قراءة كتب لم تكن متاحة له سابقاً، كما كان سبباً في الاقتراب من قامات إبداعية كبيرة (صنع الله إبراهيم، وعبد الرحمن الشرقاوي، وفؤاد حداد، وحسن فؤاد، وصلاح حافظ، وإسماعيل صبري عبد الله، ولويس عوض، ومحمود أمين العالم، وألفريد فرج). وفي المعتقل بدأ أولى خطواته في الرسم، وأكل، مضطراً، أوراق وبذور نبات الخروع، التي يُجمع كُثر بأنها سامة لكنه وصفها بأنها «غذاء طيب ومُنعش وجميل جداً»، بل إنه لم ينتهز فرصة الفيلم ليصفي حساباته مع سجانه، وإنما أثنى على مأمور المعتقل، ووصفه بأنه «شريف» كان يبيع لوحاتهم التشكيلية للسائحين في الواحات، ويشتري بعائداتها المادية أدوات وألواناً لمرسم المعتقل!

Ad

«صهد الشتا»، الذي اختير عنواناً للفيلم هو عنوان أول ديوان شعري أصدره مجدي نجيب في العام 1964، بينما يكاد ينطبق وصف «كامل الأوصاف» عليه، لأن روحه المتسامحة لم تدفعه يوماً إلى التنازل أو التفريط، ونزوعه إلى الحرية جعل منه الطائر الطليق أو «العصفور»، الذي رصع أغانيه ولوحاته، كما فعل مع العيون التي كانت القاسم المشترك في غالبية قصائده (قولوا لعين الشمس لشادية/ العيون السود خدوني لعبد الحليم/ العيون الكواحل لفايزة أحمد)، وهو، على صعيد آخر، العاشق لوطن عبّر عنه في تزاوج فريد، بل توحد مثير، بين الكلمة والصورة، واللوحة والأيقونة أو «الموتيفة»!

بالإضافة إلى الألوان التي أضفت على الشاشة بهجة، واختيار الأماكن الرائعة (مرسمه، وركن في شقته ومركب نيلي) التي أحالت الصورة إلى سحر (تصوير ألفت عثمان وأيمن صفوت) كانت خفة ظل مجدي نجيب حاضرة، كذلك رسائله غير المباشرة، مثل حديثه عن الشيخ كشك الذي حرض ضد أغنية «قولوا لعين الشمس»، وقول نجيب: «الحمد لله إن الوقت ده ما كانش فيه الناس اللي بيرفعوا قضايا على المفكرين والكتاب والفنانين وإلا كان زماني اتحبست تاني»، في إشارة ذات مغزى إلى قضايا الحسبة التي تنهال على رؤوس المبدعين اليوم!

احتفل الفيلم ببعض الأغاني التي كتبها مجدي نجيب، ومع صور المطربين في النهاية نكتشف أن غالبية مطربي مصر غنوا كلماته: (عبد الحليم حافظ، وفايزة أحمد، وشادية، ومحمد منير، وصباح، ووردة، ونجاة، وسعاد محمد، وهاني شاكر، وأحمد منيب، وعايدة الشاعر، ومحمد قنديل، وعلاء عبد الخالق)، وأن «الرعب والوحدة كانا دافعه إلى كتابة الشعر»، بينما أحبّ القمر لأنه كان «رفيقه في عتمة المعتقل»، وإن تسبب، أي القمر، في اتهامه من النظام الحاكم آنذاك بأنه سبّ عبد الناصر في قصيدة يخاطب فيها القمر، وكادت تتسبب في اعتقاله من جديد!

لم يكن جديداً بالنسبة إلي أن أرى مجدي نجيب شاعر الشمس والقمر، رقيق الحس، مرهف المشاعر، لكن نجحت المخرجة ألفت عثمان في التقاط روحه، وبساطته، وسحر كلماته، وقدرته على إيصال المعنى بغير فجاجة، فهو يلخص ما وصلنا إليه من كراهية وتنافر بقوله: «النهارده مفيش مودة بين وردة وفراشة، ولا بين غني وفقير.. عناوين الحلم شاخت»، ويرصد الواقع الراهن بقوله العذب: «يا حسرة عيونهم بتشيب لكن خطاويهم بتشب!».