أحمد شوقي/ حديث متجدد (2)
هذا مقام ليس مناسبا لتتبع واستحضار المتفرق من نماذج الشعر الذاتي المعبِّر عن شخصية شوقي في جوانبها الروحية والإنسانية، إنما سنقف عند نموذج تمثيلي واحد، وهو مسرحية "مجنون ليلى"، الذي نراه أقرب نموذج يصلح للمناورة والمساءلة، ويطرح بشكل صريح تجربة أحمد شوقي في صراعه الخفي بين التقيد "بعقلانية" الخطاب الشعري ورزانته وشروطه التقليدية الاتباعية، وبين محاولة التحرر من هذا الإسار، والإخلاص لنوازع النفس الإنسانية وجموحها، وبحثها الدائم عن التحقق بما يتلاءم والحرية غير المشروطة التي تحلم بها. إن الولوج إلى هذا المنحى النفسي المنسل من عقلانية الواقع وصرامته نحو دهاليز الذات وتهاويمها في تراث شوقي يستلزم، بلا شك، المناورة حول مجموعة من المحاور ذات صلة بظروف الشاعر الزمانية والمكانية، والنفسية، وذات صلة أيضاً بقيم الواقع الثقافي، وبالموقف من الحب والمرأة، والموقف من التراث والموروث. وكلها مقدمات و"فرشة" أساسية لا غنى للباحث عن المناورة حولها أو "التورط" بسياقاتها، في سبيل تدعيم آرائه وطروحاته، التي تأتي كنتيجة ومحصلة لهذه الحزمة من المقدمات الظرفية. لعل الملمح الأكثر بروزاً في حياة أحمد شوقي يتضح في كونه عاش حياتين مزدوجتين على الصعيدين الشخصي والإبداعي، أو هو بالأحرى عاش في إهاب شخصيتين متناقضتين أشد التناقض. ولم تكن محنة التناقض في شخصية الشاعر سوى نتيجة ومحصلة لجملة من العوامل الظرفية الضاغطة التي تضافرت – ربما بشكل قسري – في تشكيل تلك الحياة، وتحديد مساراتها. فهو من جهة وجد نفسه بحكم قدره الحياتي ابناً لعائلة ذات وضع أقرب إلى التميز، لصلتها بالحكّام والقصر، وهو مدفوع بحكم هذه النشأة "المرتاحة" إلى تجربة ألوان من الرعاية والرفاه، ابتداءً من لعبه طفلاً بقطع الذهب المتناثرة بين يديه، كما جاء في سيرته، مروراً بتهيؤ فرص التعليم المتميز، سواءً ما تعلق بالتعليم النظامي الأوروبي، أو علوم العربية، وانتهاءً بفرص الابتعاث إلى الخارج، وبانفتاح أبواب الوظائف العليّة ذات الصلة بالمناصب والنفوذ.
وإلى جانب هذا الوضع العائلي والاجتماعي الشديد الرصانة والمتخم باللياقات والبروتوكولات في العلاقات والسلوك، هناك حائط لا يقل عن هذا صلابة ومنعة، كان على شوقي مواجهته ومجاراته، وهو حائط الخطاب الشعري المطروح حينذاك، والذي كان لا يزال يؤسس لقيم الإحياء والبعث، وإعادة قراءة واكتشاف تاريخ التراث الشعري والنسج على منواله، في محاولة لتجاوز عصور الوهن والانحطاط الذي ران على الشعر العربي في قرونه المتأخرة، وحتى قبيل عصر البارودي في القرن التاسع عشر. وقد كان قدر أحمد شوقي أن يولد في الربع الأخير من القرن التاسع عشر عام 1868، ليجد نفسه مدفوعاً، لا محالة بحكم استعداده وقدراته، إلى تكملة مسيرة الإحياء، وهي الأطروحة الأكثر زخماً وحضوراً وقتئذ.كل هذه العوامل الضاغطة لعبت دوراً مهماً – ولا شك – في وضع شوقي داخل إطار الشاعر الإحيائي الكلاسيكي المقلِّد، رغم كل ما قيل عن تجديداته أو مسايرته للموضوعات ذات الصلة بمتغيرات العصر المادية وأحداثه التاريخية وتقلباته السياسية. هذه العوامل مجتمعة شكَّلت الجانب الأول من شخصية شوقي، كما أسلفنا، وهي شخصية الشاعر المهادن، المستسلم لشروط حياته وخطاب عصره الشعري. وإلى جانب هذا الشق من شخصية شوقي، هناك الشق الآخر المختلف والمناقض لهذه الصورة، وهو جانب الإنسان الذي سمحت له الظروف في مقتبل العمر، وما بين عشرينياته وثلاثينياته، أن يخرج من أسر البيئة والوسط والخطاب الثقافي عامةً، نحو عالم متفتق بالجدة في كل ما يخص الفن والأدب والنقد وطروحات الفكر والفلسفة، وذلك حين انطلق شوقي نحو فرنسا وعاش فيها سنوات من أخصب سنوات العمر وأكثرها عنفواناً، وأقدرها على كسر القيود والموانع. يُضاف إلى ذلك، أن شوقي ارتحل إلى فرنسا، طلباً للعلم والسياحة معاً، وهذا يعني المزج بين جدية العلم ومنهجيته ورسوخه، وبين حرية التطلع والتأثر، وانطلاقة الوجدان وفرح الدهشة والاكتشاف، إضافة إلى ما انطوت عليه شخصية الشاعر في الأصل من موهبة واستعداد فطريين، كما يتضح في سيرته.