يسيِّر المؤلف، في عراء تموز البغدادي، من تسعينيات القرن الماضي، وتحت حرارة 55 درجة مئوية، شاحنة هجينة التصميم، وغامضة الوظيفة، تبدو أنها تذرع الشوارع بغير هدى. لا تملك من جنس الشاحنات ملمحاً، وفيها غرفتان للقيادة والمتابعة تراقبان خط سير الشاحنة، ولكل غرفة أسبابها ومآربها.

الغرفة الأولى داخل البلد تمارس عملها عبر المراقبة والملازمة الأرضية، والثانية خلف البحار تتابع خط سير الشاحنة عبر الأقمار الصناعية. تمارس الأولى عملها بخبرة عميقة الجذور، ساخرة ومتشفية بظنون الثانية.. أما الثانية وهي تتابع رحلة الشاحنة عبر تكنولوجيا السماء فعالقة في مطب الاحتمالات.. كلّ غرفة منهما تشكل عالماً مستقلاً بذاته، ولكنها إضافة إلى عالم الشاحنة، الذي صهر في أتونه خمسة مصائر تبدو في غاية التنافر: مربي طيور، ومعلم مدرسة ابتدائية، وملحن موسيقي مشهور يهرب من شهرته ليبحث عن ألحان إلهية، وحكواتي مجنون، وإمام جامع ومقرئ قرآن، فإنها تشكل عالماً يتقاطع مع عالم الشوارع التي تسير فيها شاحنة المصائر تلك.

Ad

العالمان منفصلان لا يدري أحدهما أمراً عن الآخر... بل هي عوالم متقاطعة ومتخاصمة بما لها وما عليها تمارس حيواتها داخل النص، كما هي الحياة، حب، وكراهية، ووفاء، وخيانات، وهوايات، ومهن، وحِرف، واستقامة، وشذوذ.. يلاحقها كريم كطافة بدقة، إلى نهاية الرواية. 

 

من الرواية:

فوق هذه الخبرة المتراكمة والمتحصّلة من إلمامه بشؤون وشجون الدين والسياسة والمهن والحرف المختلفة، كان النقيب شرهان يثق كذلك بحدسه. ويسمّيه الحدس الأمني. لطالما بنى فرضيات واستنتاجات على مجرد حدس دهمه، وهو ينظر بعينَي سجينٍ ما.

لكنْ؛ رغم هذا وذاك كله ظل هناك شيءٌ واحدٌ، يأباه، ولا يقربه، بل لا يريد حتّى أن يفهمه؛ هو الموسيقى والموسيقيون؛ إذ باستثناء ما يستلذّه في أحيان قليلة في أغاني الغجريات اللواتي يجلبهنّ له معاونه داود لمزرعته، هو يكره الغناء والموسيقى جملةً وتفصيلاً، بل هو يحقّر المتورطين بهما... وحتّى حين يراجع نفسه بعد لحظات الاستمتاع القليلة التي يحصل عليها من غناء الغجريات، لم يصل مطلقاً إلى مصدر تلك اللذة، أهي من اللحن، الأداء، حلاوة الصوت، الكلمات؟ لم يحقّق يوماً مع مغنّ، أو مع ملحن موسيقي، وكأن عقله الباطن متأكد أن لا خطر يأتي من هذه الجبهة. ناهيك عن أن العادة الدارجة في دولته الأمنية هي إحالة مخالفات وجنايات هذه الفصيلة من البشر إلى مديرية الأمن العام، أو شرطة الأخلاق، وليس إلى مديرية المخابرات العامة التي يتربّع النقيب شرهان على عرش أحد أقسامها المهمة (قسم القضايا الغامضة).

الرواية الرابعة

كاتب عراقي من مواليد بغداد 1961. مقيم في هولندا. كتب العمود الصحافي والنقد الأدبي والقصة القصيرة والسيناريو والرواية، ونشر كتاباته في صحف عراقية وعربية مختلفة. صدر له: «ليالي ابن زوال» ثلاث طبعات – الثالثة عن منشورات المتوسط 2015، و«حمار وثلاث جمهوريات» عن منشورات الجمل 2008، و«حصار العنكبوت» عن دار نون 2014. وهذه روايته الرابعة.